(بَابُ: فَضْلِ العَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ)⁽¹⁾.
          58- (عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ⁽²⁾: مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ...) الحديث⁽³⁾. [خ¦969]
          ظاهر الحديث يدلُّ على أنَّه ليس شيء من الأعمال أفضلَ من الأعمال في أيام التشريق، وهي الثلاثة الأيَّام⁽⁴⁾ التي بعد يوم النحر.
          والكلام عليه من وجوه:
          منها: أنَّ فيه دليلًا⁽⁵⁾ على أنَّ هذه الأيام وإن كانت أيَّام عيد فإنَّما هي للعبادة لا للهْو، وما يفعل فيها الناس اليوم من أنواع البطالة فممنوع⁽⁶⁾ بهذا الحديث، فإن احتجَّ مُحْتَّجٌ بقوله ◙ : «لكلِّ أمةٍ عيدٌ، وَهَذَا يومُ عِيْدنا» فقد بيَّن ╕ ما هو المباح فيها أيضًا بقوله ◙ : «إِنَّمَا هي أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وذِكرِ الله»، وقال⁽⁷⁾ ◙ : «أفضلُ مَا يُعْمَلُ فِيْهَا إراقةُ الدِّمَاءِ⁽⁸⁾».
          ومن السُّنَّة في إراقة الدماء أن يأكل مما يتقرَّب به ويتصدَّق ويُهدي، وقد شرع فيها أعلى العبادات وهي:⁽⁹⁾ الذكر لقوله ◙ : «مَا عملَ آدميٌّ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ⁽¹⁰⁾مِنْ ذِكْرِ اللهِ»، ونفقة المال في⁽¹¹⁾ الضحايا لقوله ◙ : «تَنَافَسُوا في أَثْمَانِهَا⁽¹²⁾ فَإِنَّهَا مَطَايَاكُمْ إِلَى الجنةِ»، وقد جعل فيه⁽¹³⁾ / الصدقة من الأضحية، والصَّدقة كما قال ◙ : «تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ».
          والذي مُنِع فيها من مجاهدة النفس هو الصومُ لا غير، وبقي باقي العبادات مطلوب على الوجوب أو الندب؛ لأنَّ الفرض لا يسقط في وقت من الأوقات مع القدرة عليه لا في عيد ولا في غيره، وجاء هذا الحديث يحضُّ على طلب⁽¹⁴⁾ المندوبات وجعلها أعلى ممَّا هي في غيرها تأكيدًا لها.
          وهنا بحثٌ وهو⁽¹⁵⁾: هل تفضيلُ الأعمال في هذه الأيَّام لعِلَّة مفهومة أوتعبُّد ليس إلَّا؟
          (فنقول): بل لعلَّة وهي أنَّه قد تقرَّر من قواعد السنَّة المحمَّدية أنَّ أوقات الغفلات العبادةُ فيها أفضل كما جاء في الصَّلاة التي بين العشاءين وما فيها؛ لأنَّه وقت غفلة الناس، وكذلك⁽¹⁶⁾ قيام الليل لـِمَا فيه من الغفلة أيضًا؛ لأن⁽¹⁷⁾ الناس إذ ذاك في حال نومٍ وغفلة، وكذلك صلاة الضحى لِـمَا فيها أيضًا من غفلة الناس بأسبابهم وهذا كثير فلمَّا كانت هذه الأيَّام أيَّام أكل وراحة للنفوس فهي في الغالب يتسلَّط⁽¹⁸⁾ عليها النوم الكثير والغفلة، وأمَّا اليوم فقد زُهِد في القُرَب وجُعِلَت للهو والمحرمات.
          واحتجَّوا بما جاء أنَّه صلعم دخل على عائشة ♦ وعندها جوارٍ من بني النجار يضربن بالدُّفِّ فاضطجع صلعم على فراشه وحوَّل ظهره إليهنَّ⁽¹⁹⁾، وإذا⁽²⁰⁾ بأبي بكر ☺ قد دخل فانتهرهنَّ وقال: أمزامير / الشيطان في منزل الرسول صلعم ؟ فردَّ رسول الله صلعم رأسه إليه وقال له: «دَعْهُنَّ فَإِنَّهُ يومُ عِيْدٍ».
          وهذا إنْ صحَّ فلا حجَّة فيه؛ لأنَّ ذلك كان أوَّلَ الإسلام، والخمرُ إذ ذاك حلالٌ والربا حلالٌ والقمار حلالٌ وكثيرٌ من الفرائض لم تفرض بعد، ثمَّ جرى الأمر بخلافه، ألا ترى إلى⁽²¹⁾ قوله ╕ يوم فتح مكَّة: «إِنَّمَا بُعِثْتُ بِكَسْرِ الدُّفِّ والْمِزْمَارِ»، فخرج الصحابة رضوان اللهُ عنهم⁽²²⁾ يأخذونها من أيدي الولدان ويكسرونها، فما جاء من الأحاديث أوَّلَ الإسلام في إباحة شيء ثمَّ حرم بعد فلا حُجَّة فيها؛ لأنَّها منسوخةٌ، وقد نصَّ ╕ على أنَّ: «لَهْوَ المؤمنِ لا يكونُ إلَّا في ثلاثٍ: في رَمْيِهِ عَنْ قوسِهِ، وتَأْدِيْبِهِ لِفَرَسِهِ، ومُلَاعَبَتِهِ لِأَهْلِهِ» فمن أين يكون لها رابعٌ، والأحاديث في ذلك كثيرة، وقد قال مولانا جلَّ جلاله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [لقمان:6].
          فاللهو ممنوع شرعًا في العيد وغيره إلَّا ما ذكرناه آنفًا، وفُضِّلت أيضًا من نوع آخر _أعني أيام التشريق_ وهو أنَّها لمّا كانت أيام محنة للخليل ╕ ثمَّ مُنَّ عليه بأن أُبْدِلَت له المحنة بمنَّة وأيّ مِنَّة فصارت بهاتين الصفتين أفضل الأيام، والمولى سبحانه إذا مَنَّ على مَن مَنَّ عليه من عباده بمنَّة لا يزيلها عنه فأبقى ╡ لها⁽²³⁾ ذلك الفضل وزاد فيها بأنْ أبقى لهم النعمة وهي ما شرع ╡ من القربات ورفع المحنة عنهم وهي ما كان من ذبح الولدان.
          وهنا / بحثٌ في قوله ◙ : (مَا العَمَلُ) الألف واللام هنا هل هي للجنس فيكون فيها التساوي بين المفروضات والمندوبات على اختلافها؟ أو هي للعهد وهي أعمال مخصوصة؟
          أمَّا صيغةُ اللفظ فمحتملةٌ⁽²⁴⁾ للوجهين معًا فيكون فضلُ الفرائض فيها أفضلَ من غيرها كما قال ╕ في صلاة الصبح: «مَنْ شَهِدَهَا في جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ بِهَا لَيْلَةٍ»، وقال في العشاء: «مَنْ شَهِدَهَا في جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ بِهَا⁽²⁵⁾ نصفَ ليلةٍ»، فترى هذه أُدِّيَت في جماعة والأخرى كذلك وبينهما⁽²⁶⁾ قدر النصف في الأجر، وما ذاك إلَّا لـِمَا فيها _أعني⁽²⁷⁾ صلاة الصبح_ من كثرة المشقَّة زائدًا على العتمة؛ لأنَّ أكثرَ الناس في الصبح على حالة⁽²⁸⁾ جنابة ونوم وغفلة أكثر ممَّا في العتمة، فيكون أداءُ الفرائض في هذه الأيَّام مثل ذلك سواءً لـِمَا فيها من كثرة الغفلة والجنابة والأكل والراحة فتكون بهذا النظر⁽²⁹⁾ أفضل من غيرها. وذلك مثلُ الجهاد؛ لأنَّ الجهادَ⁽³⁰⁾ فيه فرضٌ وتطوُّعٌ كما هي الأعمال في هذه الأيَّام فيها فرضٌ وتطوُّعٌ.
          واحتُمِلَ أن تكون للعهد وهي إشارةٌ إلى الأحاديث التي ذكرنا أوَّلًا من أنَّها أيَّامُ أكلٍ وشربٍ وذكرِ الله تعالى، والأعمُّ أَولى من أجل كثرة الفائدة، فيكون ما أوردناه أوَّلًا من تلك الأحاديث المعنى فيها: أنَّ الذي يعمل في هذه الأيَّام بعد الفرائض أولى ما فيها ما ذكر ╕ من إراقة الدماء والذكر والصدقة ولا تمنع باقي الأعمال، / ومما يقوِّي ما قدَّمناه⁽³¹⁾ قوله ◙ : (مَا عملَ آدَمِيٌّ أَفْضَلَ) فجاء بها في باب الأفضليَّة، وما جِيءَ به في باب الأفضليَّة جاز عمل غيره معه وإن لم يقدر عليه فلا يخلِـي نفسه من الخير الزائد على الفرائض.
          وفيه دليلٌ على فضيلة الجهاد يُؤخَذُ ذلك من قول الصحابة ♥: (ولَا الجِهَادُ؟) فلولا أنَّ ذلك الحكم⁽³²⁾ قد تقرَّر منه صلعم ما سألوه عن هذا النوع وقد جاء فيه عنه ╕ أنَّه قال: «أَعْمَالُ البِرِّ في الجِهَادِ كَبَزْقَةٍ في بحرٍ».
          وهنا بحثٌ وهو: لِمَ نَوَّعَ الجهاد وجعل ما هو محذورٌ شرعًا في غيره أرفع الأشياء في الجهاد وهو قوله: «خرجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ ومالِهِ» وهذا ممنوع في غيره؛ لأنَّ المخاطرة ممنوعة ثمَّ لم يجعله أفضل إلابعد تحقيق الهلكة بقوله: «فَلَمْ يرجعْ بِشَيءٍ» وقد قال الله ╡ : {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [البقرة:195]؟
          فالجواب أن نقول: كلُّ مَنْ زاد في ما أُمِرَ به من ذلك الشيء نفسه من نوع ما أُمِرَ به حصلت له زيادة الـمِدْحة، فإن كان من غير ذلك النوع زيادته لم يحصل له في ذلك النوع زيادة مدحة، مثال ذلك (التوكُّل) هو من شروط الإيمان وما جاءت الـمِدحةُ إلَّا على الزيادة فيه بقوله: «حَقَّ تَوَكُّلِهِ» وكذلك لـمَّا كان الإيثار من خصال الإيمان لم تاتِ المدحة إلَّا على الزيادة فيه بقوله ╡ : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]. /
           وهذا إذا تتبَّعته كثيرٌ، فلمَّا كانت مشروعيَّة القتال تُفضي إلى قتل النفس فزاد هذا المخاطر فيما شرع له بارتكاب المخاطرة حصلت له الفضيلة على غيره للمعنى الذي أشرنا إليه؛ لأنَّ تلك الزيادة في كلِّ موضعٍ أُمِرَ فيه بشيء دالَّةٌ على الإخلاص والصدق وهما أرفع الأعمال، وطلب مرضاة الرب بتوفية ما أُمِرَ والزيادة على⁽³³⁾ زيادة في استدعاء الرضا كما قال موسى ◙ : {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } [طه:84].
          ولهذا إذا مُدح الفارس قيل فيه: (فارسٌ أحمق) وهو مِنْ أعلى مِدَحه؛ لأنَّ الأحمقَ هو الذي يغرر بنفسه وبذلك تظهر فروسيَّتُه.
          وفي هذا دليل صوفيٌّ؛ لأنَّهم يقولون: لا تبلغ الأحوال النفيسة⁽³⁴⁾ إلَّا بإذهاب النفس النفيسة والمخاطرة في المجاهدات بها تبلغ الغاية⁽³⁵⁾، فإذا كان طالبُ⁽³⁶⁾ الدُّنيا الدنيَّة⁽³⁷⁾ يقول:
          أُحاوِلُ مُلْكًا أو أموتَ فأُعذَرا
          وملكها على أن يحصل ذاهبٌ لا محالة، وقد يعقُبُ في الآخرة _في الأغلب_ تعبٌ دائمٌ⁽³⁸⁾ فما بالك بمن يطلبُ ملكًا أبديًا في حضرة قدسيَّة: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] وقال:
دعوني يا عذَّالي في هواه خلعت عذاري                     وبذكراه علِّلـوني فتقواه شِعَـــاري
زمِّلوا⁽³⁹⁾ مطـايا أعمــالي حثيثةً للجواري                    وبالنفوس جودوا بلا تلعثم منكم ولا ادِّكار وأيقنوا بوصل الحبيب عند                      فيض الأدمع / الغزار⁽⁴⁰⁾