159-قوله: (قَالَ رَسُولُ⁽¹⁾ اللهِ صلعم : لـمَّا قَضَى اللهُ ╡ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ⁽²⁾...) الحديث. [خ¦3194]
          ظاهر الحديث يَدُلُّ عَلَى أنَّ رحمة الله تعالى لعباده أكثر مِن غضبه، والكلام عليه مِن وجوه:
          الأَوَّل: قوله صلعم : (لـمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ) قضى بمعنى: خلق، ومنه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ⁽³⁾} [فصلت:12] أي: خلَقهن.
          الثاني: قَوْلُهُ ╕: (كَتَبَ) كتب بمعنى⁽⁴⁾: أوجب، ومنه قوله تعالى:{كَتَبَ رَبُّكُمْ⁽⁵⁾ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] أي: أوجبها، وهذا الوجوب مِن الله تعالى وجوب تفضُّل وامتنان لا وجوب حقٍّ عليه محتوم، لأنَّ الوجوب في حقِّهِ تعالى مستحيل.
          الثّالث: قَوْلُهُ ╕: (فِي كِتَابِهِ) هذا هو الذي يحمل على ظاهره ويجب الإيمان به كما ورد الخبر به، وهو أنَّ ثَمَّ كَتْبًا⁽⁶⁾ محسوسًا⁽⁷⁾ في كتاب محسوسٍ، لكن بقي احتمال في الكتاب. هل فيه غير / ما ذكر في الحديث ويكون ما ذُكِرَ مِن جملة الكتْبِ الذي فيه، أو ليس فيه غير ما ذكر⁽⁸⁾ وهو إيجاب غلبة الرحمة على الغضب؟ احتمل المعنيين معًا والقدرة صالحة لكليهما.
          الرَّابع: قَوْلُهُ ╕: (فَهُوَ عِنْدَهُ) إنَّما أضاف ╕ الكتاب إلى الله تعالى لعدم المشاركين له مِن المخلوقات⁽⁹⁾ في حفظه هناك، بخلاف ما شاءت⁽¹⁰⁾ الحكمة في غيره مِن الأماكن مثل السماواتِ والأرض، لأنَّ ما في السماوات والأرض وما بينهما وما فوقهما وما فوق العرش يضاف إليه ╡ حقيقة، لكن لَمَّا أن جعل ╡ حفظ ما في السماوات والأرض على أيدي مَن شاء مِن خلقه بمقتضى حكمته لم يضف ما في تلك المواضع إليه وأضافها إليهم بمقتضى الحكمة، ولَمَّا لم يكن⁽¹¹⁾ هناك مشارك في الحفظ بمقتضى الحكمة⁽¹²⁾ أعني بهناك⁽¹³⁾: فوق العرش أضافه إلى نفسه ومثله قوله⁽¹⁴⁾ تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] والمُلك له ╡ في دار الدنيا، لكن أجرى الحكمة بأن جعل له في الدنيا⁽¹⁵⁾ نُوَّابًا وأجرى الحكمة على أيديهم فأضافها إليهم⁽¹⁶⁾، فلم يضف ما في هذه الدار إلى نفسه⁽¹⁷⁾، ولَمَّا لم يجعل في دار الآخرة خليفةً في المُلك ولا نائبًا، أضاف المُلكَ إليه⁽¹⁸⁾ ╡ ، فقال⁽¹⁹⁾: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].
          الخامس: قَوْلُهُ ╕: (فَوْقَ العَرْشِ) فيه دليل على أنَّ فوق العرش ما شاء الله تعالى بمقتضى حكمته مِن أمره ونهيه ممَّا يشبه هذا أو غيره.
          وقد يَرِد على هذا الفصل سؤال وهو أن يُقال: لِمَ كان الكتاب فوق العرش / ولم يكن في السماوات؟ والجواب عنه⁽²⁰⁾: أنَّ العرش قد شاءت⁽²¹⁾ الحكمة بأنَّه يبقى على حاله لا يتغيَّر ولا يتبدَّل بحسب الأخبار الواردة في ذلك، والسماوات والأرض تتغيَّر وتتبدَّل، فخصَّ بأن كان هناك لأجل هذا المعنى، فإن قال قائل: لِمَ لَمْ يكن في الجنان؟ إذ إنَّ الجِنَان لا تتغير ولا تتبدل؟ قيل له: إنَّما جعل الجنان للجزاء والنعيم، والأمر والنهي ليس هناك، وقد شاءت⁽²²⁾ الحكمة بأنَّ الأحكام والشرائع والأمر والنهي مختصٌّ بالعرش ومنه منبع ذلك كله.
          وفي هذا دليلٌ على أنَّ الله ╡ متنزِّهٌ⁽²³⁾ عن الحلول على العرش، لأنَّه قد شاءت⁽²⁴⁾ الحكمة أن يكون العرش ظرفًا لِمَا شاء ╡ مِن أمره ونهيه وحكمه⁽²⁵⁾ بمقتضى هذا الحديث في قوله عنِ⁽²⁶⁾ الكتابِ: (فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ) وقد مرَّ الكلامُ عليه، فعلى⁽²⁷⁾ مقتضى هذا الحديث فيكون معنى قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]:⁽²⁸⁾ استوى أمره ونهيه وما شاء مِن حكمه⁽²⁹⁾، ومثله أيضًا قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر:22] أي: جاء أمرُ ربك⁽³⁰⁾، وهذا مستعمَل في ألسنةِ العرب كثير⁽³¹⁾.
          وممَّا يزيد هذا بيانًا وإيضاحًا _أعني نفي⁽³²⁾ الذات الجليلة عن الحلول والاستقرار_ قَوْلُهُ ╕: «لَا تُفضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بنِ مَتَّى» والفضيلة⁽³³⁾ قد وجدت بينهما في عالم الحس، لأنَّه ╕ رُفِعَ حتَّى رقي السبع الطباق⁽³⁴⁾، ويونس ╕ ابتلعه الحوت في قعر البحار⁽³⁵⁾، والفَضيلة⁽³⁶⁾ موجودة / مرئية⁽³⁷⁾ في هذا العالم الحسي.
          ولم يكن ╕ لينفي شيئًا موجودًا حِسًّا⁽³⁸⁾ ولا يقول إلا حقًّا، فلم يبقَ معنى لقَوْله ╕: «لا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُس» إلا بالنسبة إلى⁽³⁹⁾ القرب مِن الله سبحانه، فمحمد ╕ فوق السبع الطِّباق، ويونس ╕ في قعر البحار⁽⁴⁰⁾ وهما بالنسبة إلى القرب مِن الله سبحانه وتعالى على حدٍّ سواء، ولو كان ╡ مُقَيَّدًا بالمكان أو الزمان لكان النَّبيُّ صلعم أقرب إليه، فَثَبتَ بهذا نفي⁽⁴¹⁾ الاستقرار والجهة في حقِّهِ جلَّ جلاله.
          الوجه⁽⁴²⁾ السَّادس: قوله ╡ : (إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي) بمعنى:⁽⁴³⁾ أكثر، أي: بما حكمتُ بذلك⁽⁴⁴⁾ لعبادي بأن⁽⁴⁵⁾ أكثرتُ لهم النصيبَ مِن رحمتي على النصيب مِن غضبي، لكن هذا يُحتاج فيه إلى كلام وبيان لأنَّا قد وجدنا مقتضى هذا الكتاب موجودًا حِسًّا في الدنيا، لأنَّ الرحمة قد عَمَّت الخلق بأجمعهم فيولد الكافر وأبواه يشركان⁽⁴⁶⁾ بالله ويعبدان الأوثان وهو يَكْبَر⁽⁴⁷⁾ على الطغيان والضلال وهو ╡ يغذِّيه⁽⁴⁸⁾ بألطافه وييسر له ما يحتاج إليه⁽⁴⁹⁾ مِن ضروراته، وكذلك غيره مِن العصاة، هذا مشاهد مرئيٌّ⁽⁵⁰⁾ لا يحتاج فيه إلى بيان، والقليل النادر مَنْ عُومِل بصفة الغضب، لكن الآخرة قد وردت الأخبار فيها بضدِّ هذا.
          فمنها قَوْلُهُ ╕: «يقولُ اللهُ ╡ لآدمَ يومَ القيامةِ: أخرِجْ بَعْثَ النَّار مِنْ بَنِيْكَ⁽⁵¹⁾، / فيقولُ: يا ربِّ، وما بَعْثُ النَّارِ؟ فيقولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِئَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ⁽⁵²⁾» فشق ذلك على الصَّحابة رضوان الله عليهم، فقال لهم رسول الله صلعم : «مِنْكُمْ رَجُلٌ⁽⁵³⁾ وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفٌ، وَإِنَّكُمْ فيمنْ تقدمَ مِنَ الأممِ كَالشَّامَةِ⁽⁵⁴⁾ البيضاء فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ⁽⁵⁵⁾ الأسودِ» إلى غير ذلك مِن الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى⁽⁵⁶⁾، فكان الغضب في الآخرة على مقتضى هذا الظاهر أكثر مِن الرحمة وذلك مخالف لنصِّ الحديث.
          والجواب عن هذا الإشكال: أنَّه ╕ لم يقل: (لَمَّا قضى الله خلق بني آدم)، وإنَّما قال: (لـمَّا قَضَى اللهُ الخلقَ)⁽⁵⁷⁾ فعَمَّ ولم يخصص، وبنو آدم في مخلوقات الله تعالى البعض مِن الكل، وقد قال ╕: «إنَّ في هذهِ الدارِ⁽⁵⁸⁾ مِنْ مخلوقاتِ اللهِ تعالى ألفَ عالَمٍ، أربع مائة في البَرِّ وستمائة في البَحر» هذا ما هو في هذه الأرض، فكم في الأرضِينَ الأُخَر⁽⁵⁹⁾؟ وكم في السماوات مِن الملائكة؟ وكم تحت العرش؟ وكل هذه المخلوقات تُحشَر يوم القيامة حتَّى يقتصَّ الله ╡ ممن شاء، لمن شاء، كيف شاء، ثمَّ⁽⁶⁰⁾ يقول ╡ لِما عدا الثقلَينِ والملائكة⁽⁶¹⁾: كونوا ترابًا، فعند ذلك: {يَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ:40] لأنَّ النجاة مِن عذاب الله رحمة.
          وقد جاءت الأخبار والآثار أنَّ النَّار لا يدخلها غير الثَّقَلَينِ، ولا يدخلها مِن الثقلين إلا الكفَّار منهما⁽⁶²⁾ والعصاة، فالعصاة لا يخلَّدون / ويخرجون منها بعد القصاص أو بالشفاعة⁽⁶³⁾ ويصيرون إلى النعيم الأكبر ولا يبقى فيها مخلَّدًا إلا الكفار، فمَن خُلِّد فيها بالنسبة إلى المخلوقات أدنى أدنى الأجزاء، فكانت الرحمة في تلك الدار أعم منها في هذه الدار، وقد قال ╕: «إنَّ اللهَ تَعَالَى جعلَ الرحمةَ في مئةِ جزءٍ فأخرجَ مِنْهَا لهذهِ الدارِ⁽⁶⁴⁾ واحدةً بِهَا يتراحمُ بَنُو آدمَ حَتَّى الفرس ترفعُ حافِرَهَا⁽⁶⁵⁾ عَنْ ولَدِها خشيةَ أنْ يصيبه⁽⁶⁶⁾، وادَّخرَ للآخرةِ تسعةً وتسعينَ» فصح كثرتها بالنظر كما ذكرنا وبالأخبار، والله المستعان.