بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: قال الله: يسب بنو آدم الدهر وأنا الدهر

          249- قوله صلعم : (قَالَ اللهُ: يَسُبُّ ابْنُ آدَمَ الدَّهْرَ...) الحديثَ(1). [خ¦6181]
          ظاهر الحديث يدلُّ على المنع مِن سَبِّ الدَّهر، لأنَّه يعود إلى سبِّ(2) خالقه ومصوِّره، وهو الله سبحانه وتعالى. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أنَّ هذا صيغته(3) صيغة الخبر، ومعناه الزَّجر والمنع، لأنَّه ممنوع أن يسبَّ عبدٌ مولاه، أو مخلوقٌ خالقه، أو عابدٌ معبوده(4)، فلمَّا كان هذا ممنوعاً عَقلاً وشَرعاً استغنى ◙ / بالخبر عن النهي(5).
          ومنها(6): هل سبُّ اللَّيل وَالنَّهار أعيانهما هُو المنهيُّ عنه، أو سبُّ(7) ما يجري فيهما مِن الحوادث والنوازل كانت على أيدي البشر أو بغير وساطة(8) البشر؟ وَهل هَذا المنع يتعدَّى إلى غيرهما(9) مِن المخلوقات، أَو لا؟ وَهل يمنع مَا يشبه أو يقارب السبَّ مِثل الذمِّ والشؤم وَمَا في(10) معناهما، أو لا يمنع إلَّا(11) السَّبَّ لا غير؟ وما الحكم فيمن فعل ذلك؟
          أمَّا قولنا: هَل الممنوع سبُّ أعيان اللَّيل والنهار أو ما(12) يجري فيهما مِن الحوادث؟ فهذا لا يخفى على أحدٍ أنَّ مَن سبَّ الصَّنعة فقد سبَّ صانعها، ولا يكاد يخفى هذا عن أحدٍ حتَّى يأتي على ذلك هذا العتب(13). وإنَّما الظَّاهر سبُّ ما يجري فيهما مِن الحوادث، وهذا هو الذي يقع فيه كثير مِن النَّاس، وهو الذي يعطيه سياق الحديث لقوله: (بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ) فنفى عنهما أن يكون لهما تأثير فيما يجري فيهما مِن الأمور والحوادث.
          والأمور والحوادث(14) التي تجري فيهما عَلى نوعين: منها ما يجري(15) بواسطة الحيوان العاقل المكلَّف، فهذا يُضاف(16) شَرعاً ولغةً إلى الذي أُجري عَلى يديه، وإنْ كان في التَّحقيق بقضاء الله تعالى وقدره، لأنَّ أفعال العباد كَسْبٌ لهم قد ترتَّبت(17) عليها الأحكام بالثَّواب والعِقاب بمقتضى الحِكمة الإلهية، وهي في الإنشاء وَالاختراع خَلقُ الله(18) سبحانه، لَا خالق إلَّا هو تعالى علوَّاً كبيراً، وما جرى فيهما بغير وساطة(19) أحدٍ مِن خلقه فذلك منسوب إلى قدرة القادر، / ليس للَّيل والنَّهار في ذلك فعل ولا تأثير، لا عقلاً ولا لغةً ولا شرعاً، وهو المعنيُّ في هَذا الحديث. والله أعلم.
          وكذلك أيضاً كلُّ مَا كَان صادراً عَن الحيوان غَير العاقل فَهو مُضَاف إلى القدرة، إذا لم يكن ذلك بِتَسَبُّب العاقل المكلَّف، وَلذلك جَعل الشَّارع ◙ جرحها جُبَاراً(20)، أي: ليس فيه أَرْش وَلا قَوَد وَلا دِيَةٌ، وَكذلك الحكم في الجمادات كلُّ مَا يكون منها يُنسب إلى القدرة أيضاً، مِثل حائط يقع على أحد، أو جبل ينهدُّ عليه، أو ثمرة تُضرُّ به(21) أو تسقط(22) عليه، أو ماء يغرق فيه، أو مَا يشبهه(23)، هذه كلُّها منسوبة إلى القدرة، والسَّبُّ لها سبٌّ لِـمَن صوَّرَها(24) وظهرت بِقُدْرَتِه.
          وفيه دليل على نفي الأفعال(25) عن غير العاقل المكلَّف مِن جماد وحيوان غير عاقل، فسبحان مَن أظهر قدرته أين شاء، بِلا حِجاب عليها، وحَجَبَها حيث شاء بِرِداء حكمته، فجاءت الحكمة شاهدة للقدرة، والقدرة شاهدة للحكمة {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ}(26) [القمر:5].
          وأمَّا قولنا: هَل يتعدَّى المنع لمن سبَّ غيرهما(27)؟ فاعلم أنَّ كلَّ حكم كان(28) منوطاً بعلَّة فحيث وُجدت العلَّة فالحكم ثابت لازم. فلمَّا علَّل سبحانه منع سبِّ الدهر(29) بأنَّه سبٌّ له ╡ ، لكونه بيده _تعالى عَن الجارحة والتَّحديد_ وإنَّما اليد هنا كناية عن يد القدرة كقوله تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] أي: بقدرتي، فحيث وجدنا هذه العلَّة منعنا، ويكون(30) ذكر الدَّهر هنا الذي / هو اللَّيل والنَّهار مِن باب التنبيه(31) بالأعلى عَلى الأدنى، لأنَّ اللَّيل وَالنَّهار مِن(32) أعظم الآيات وَالمخلوقات الدَّالة على تحقيق الرُّبوبية.
          ولذلك أشار ╡ في كتابه العزيز إلى النَّظر فيهما بقوله تعالى: {وَاخْتِلَافِ(33) اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ويكون النَّظر في ذلك عَلى التقسيم المتقدِّم، وَهو: هل تجري تلك الأمور عَلى يد مُكلَّفٍ، أَوْ لا؟ فإنْ كانت عَلى يدِ مكلَّف فيكون الإنكار أو الزَّجر أو البعض أو غير ذلك امتثالاً للأمر لا غير(34)، بقدر مَا جعل لك في ذلك، دون زيادة فيه فتكون متعدِّياً، ولا تنقص منه فتكون غير موفٍّ لِمَا به(35) أُمرت، حُكماً عدلاً.
          وما فَهِم(36) هَذا المعنى إلَّا أهلُ التوفيق، لأنَّهم يقولون: كلُّ مَا في الوجود جميل حسن إلَّا مَا ذمَّه الشَّرع ذممناه حكماً(37) وامتثالاً. وقد ذُكر عَن بعض النَّاس أنَّه رآه بعض إخوانه مكروباً فقال له في ذلك، فقال(38): إنَّه دخل عليَّ في مُتَعبَّدي(39) هذا قوم مباركون مِن الأبدال مراراً، فرغبت منهم في بعضها عساهم يحملونني(40) معهم، وكانوا يأتوني(41) بخَرق العادة مِن أرضٍ بعيدةٍ، فَحَمَلُوني معهم فوصلوني في لحظةٍ قريبةٍ، وَكانوا في غارٍ في(42) الجبل عَلى(43) البحر الكبير، فلمَّا كان أحدُ(44) اللَّيالي جاءت ريحٌ شديدة(45) وظلامٌ شديد وهولٌ في البحر شديدٌ، فخرجوا مِن الغار وخرجت معهم، وأخذوا(46) في التَّسبيح والتَّقديس والتعظيم لله سبحانه، فحملني / الجهل بأن قلت: هذا هولٌ عظيمٌ، فالتفتوا إليَّ وقالوا(47): تعترضُ عَلى الله؟ لا يصحبنا قليلُ الأدبِ. ثمَّ التفت الشَّيخ منهم وقال لبعضهم: اجعله في مكانه الذي أخذناه منه، فأخذني بيدي(48) شيئاً يسيراً وإذا أنا في موضعي، ولم أرهُ وَلا أحداً(49) منهم بعد ذلك. فكيف لا أحزن على طردي، ثمَّ على قلَّة أدبي؟ وا أسَفي على جهلي، وا أسَفي على بُعدي. فلم يزل باكياً(50).
          هكذا(51) تكون الحرمة عند المباركين احتَرَموا فاحتُرِموا، استحَسنُوا فاستُحسِنوا، آثَروه بالبرِّ والإكبار فآثرَهم عَلى غيرهم بالترفيع والإعظام، وعندَه بالزُّلفى والإحسان.
          وأمَّا قولنا: هَل يمنع مَا في معنى السَّبِّ أو ما يقرب منه مثل تعييب الأمور والكراهية لها أو ما يشبه ذلك؟ فاعلمْ _وفَّقنا الله وإيَّاك(52)_ أنَّ ما قرب مِن الشيء أُعطي حكمه، وإن لم يكن في الحقيقة مثلَهُ، لأنَّ مَا هو في معنى السَّبِّ إمَّا أن نقول: يكون(53) هو(54) مثله فيُمنع، وإمَّا أن يكون أقلَّ درجة منه، وأقل ما يكون فيه قلَّة الأدب، لأنَّك تذمُّ شيئاً لا تعرف ما فيه مِن الحكمة والإتقان(55) بغير دليل ولا اعتبار، اللَّهُمَّ إلَّا أن يكون(56) ذلك كما تقدَّم بدليل شرعي، فهو على ما تقدَّم(57) الكلام عليه.
          ولذلك لم يأتِ عن سيِّدنا صلعم، ولا عن أحد مِن الأنبياء ╫ أنَّ أحداً منهم عاب شيئاً مِن خلق الله تعالى إلَّا مَا أُمر به مِن طريق الأمر. فمَن خالف سُنن الرُّسل ╫، ووقع في شيء مِن خلق الله، أقلُّ درجاته / أنَّه وَقع فيما فيه قلَّةُ الأدب، كيف يُستحسن(58) حاله أو يحسن منه حال؟
          وفي هذا الحديث دليل لأهل السُّنَّة لأنَّهم يقولون: إنَّ العقل لا يُحسِّن ولا يُقبِّح، وإنَّما(59) التَّحسينُ والتقبيح للشرع لا غير.
          وأمَّا قولنا: مَا الحكم على مَن فعل ذلك؟ فهذه مسألة اجتهادية، لأنَّه لم يَجِئْ عَن الشارع صلعم في ذلك شيء. فإن قلنا: إنَّ حُكمه حُكم السَّبِّ الصريح فالخلاف فيه معلوم، ومَا أظنُّه يكون مثلَه إلَّا ممَّن يعلم مَا جاء في ذلك، ثمَّ يقصد الذمَّ بعد العلم، فكأنَّه مَا أراد إلَّا الصَّريح منه، فينبغي أدبه، ولا يَؤولُ الحُكْم فيه إلى القتل، لأنَّ السَّبَّ الصريح: الأظهر فيه مِن الخلاف الذي(60) بين العلماء: الأدب، فكيف بهذا الذي هو دونه؟ وإن صدر ذلك مِن جاهلٍ يعنَّف بالقول الشَّديد، ويبيَّن له قَدْر ما وقع فيه، ويُقال له: إنْ عُدتَ لمثل هذا أُدِّبتَ الأدبَ الوجيع، ويُغلَّظ عليه(61) في ذلك، وَلا يُعذر في ثاني مرَّة إنْ وقعت منه، ويُؤدَّب، والله الموفِّق للصواب.
          وفيه دليل عَلى أنَّ مجموع اللَّيل والنَّهار يُسمَّى: دَهراً(62) شرعاً. يُؤخذ ذلك مِن ذكره الدهر، ثم فسَّره، بقوله: (بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ).
          وفيه دليل(63) لمذهب مَالك في منعه الرِّبا المعنوي؛ يُؤخذ ذلك مِن أنَّه(64) لَمَّا كان سبُّ الدَّهر يؤول إلى سبِّ المولى سبحانه وتعالى جعله سَبَّاً له، فجعل ما يعود بالمآل كَالذي هو حاضر / في الوقت.
          وفيه دليل لأهل السُّنَّة الذين يقولون: إنَّ الصِّفة لا تفارق الموصوف، يُؤخذ ذلك مِن أنَّه لَمَّا كانت الأمور صادرة عَن صفة قدرته ╡ جعل ذَلك صادراً عَن ذاته الجليلة بقوله سبحانه: (بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ).
          وفيه تنبيه لمن له همَّة ألَّا يتكلَّم بما لا يعرِف ما(65) معناه، وَكذلك في الأفعال لَا يفعل شيئاً حتى يعلم هل ذلك ممَّا ليس عليه فيه درَك(66) أم لا؟ ومما يقوِّي ذلك وصية الخَضِرِ لموسى ♂ حين افترقا وَطلب موسى(67) منه الوصيَّة فقال له في جملة وصيته: ((يا مُوسى، لا تفتَحْ باباً لا تدري ما غَلقُه، ولا تُغْلِق باباً لا تدري ما فتحُهُ)). فيا(68) هذا إذا تأمَّلت مثل هذه الأمور وأدلَّة الشَّرع وَجدت الدِّين مِن شيئين، ويدور عَلى قاعدتين: الامتثال والأدب. فمَن امتثل فقد وفى ما به(69) أُمر، ومَن تأدَّب فقد نجا ممَّا عنه نُهي، وله كَرِه. وفقنا الله تعالى لذلك بمنِّه(70).


[1] في (ب): ((عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلعم : قال الله: يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار)).
[2] قوله :((إلى سب)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[3] في (ب): ((أن هذه صيغة)).
[4] في (ت): ((أو معبود عابد)).
[5] في (ب): ((◙ عن النهي والمنع وشبهها)).
[6] في (ج): ((وما)).
[7] قوله: ((سبُّ)) ليس في (ب).
[8] في (ب): ((واسطة)).
[9] في (ب): ((لغيرهما)).
[10] في (ج): ((الذم في الشؤم وفي)).
[11] في (م): ((إلى)).
[12] في (ج): ((وما)).
[13] في (م): ((العيب)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[14] قوله: ((والأمور والحوادث)) ليس في (ب).
[15] قوله: ((منها ما يجري)) ليس في (ب).
[16] في (ب): ((انضاف)).
[17] في (ب): ((ترتب)).
[18] في (ج): ((له))، في (ت): ((لله)).
[19] في (ب): ((واسطة)).
[20] في (ج): ((جبار)).
[21] قوله :((به)) ليس في (م) و(ت) والمثبت من (ج) و(ب).
[22] في (ج): ((وتسقط)).
[23] كذا في (ب)، وفي باقي النسخ: ((يشبه)).
[24] في (م) و(ت): ((والسَّبُّ لها يثبت إلى مَن صوَّرَها)). في (ج): ((سب إلى من صورها))، والمثبت من (ب).
[25] في (ج): ((الأعمال)).
[26] زاد في (ب): ((فما تغني النذر)).
[27] في (ج) و(ت): ((بمن سب غيرهما))، وفي (ب): ((المنع إلى غيرهما)).
[28] قوله: ((كان)) ليس في (ج).
[29] في (ج): ((منع الدهر))، وفي (م): ((الدهور)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[30] في (ج): ((أو يكون)).
[31] في (ج) و(ت): ((الشبه)).
[32] قوله: ((من)) ليس في (ج).
[33] في (ج): ((واختلاف)) غير واضح.
[34] قوله: ((لا غير)) ليس في (ج).
[35] قوله: ((به)) ليس في (ج).
[36] في (م): ((فهمت)) والمثبت من (ج) و(ت).
[37] قوله: ((وما فَهِم هَذا المعنى... الشَّرع ذممناه حكماً)) ليس في (ب).
[38] زاد في (ت): ((له)).
[39] في (م): ((مقعدي)).
[40] في (ب): ((يحملوني)).
[41] في (ج) و(ت): ((يأتون)).
[42] قوله: ((في)) ليس في (ج).
[43] في (ت): ((في))، وفي (ب): ((وكانوا في غار في جبل على)).
[44] في (م): ((إحدى)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[45] في (ج): ((شديد)).
[46] في (ج): ((فأخذوا)).
[47] زاد في (ج) و(ت): ((لي)).
[48] في (ب): ((وأخذ بيدي)).
[49] في (ب): ((ولا واحداً)).
[50] زاد في (ج) و(ب): ((أو كما جرى)).
[51] في (م): ((هذا)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[52] زاد في (ج): ((لتعلم)).
[53] في النسخ و(ت): ((يقول)) ولعل المثبت هو الصواب.
[54] في (ج): ((هل)).
[55] قوله: ((والإتقان)) ليس في (ب).
[56] في (ج) و(ب): ((إن كان)).
[57] قوله: ((بدليل شرعي، فهو على ما تقدَّم)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[58] في (ب): ((قلة أدب يستحسن)).
[59] في (ب): ((إنما)).
[60] قوله: ((الذي)) ليس في (ب).
[61] في (ب): ((له)).
[62] في (ج): ((سمي بهذا)).
[63] قوله :((دليل)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[64] في (ت): ((كونه)).
[65] زاد في (م): ((في)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[66] في (ب): ((ترك)).
[67] قوله: ((موسى) ليس في (ج).
[68] في (ج): ((يا)).
[69] قوله :((به)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[70] في (ب): ((وفقنا الله تعالى وإياك لذلك الأدب عنه والامتثال)).