بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة
  
              

          29- (عَن كَعْبِ بْنُ مَالِكٍ ☺(1) : كَانَ النَّبِيُّ صلعم / إِذَا قَدِمَ من(2) سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ). [خ¦8/59-729]
          ظاهرُ الحديثِ أنَّ مِنَ السنَّةِ إذا قَدِمَ المسافِرُ مِن سَفَرٍ(3) أنْ يَبدأَ بالمسجدِ قبلَ منزلِه، والكلامُ عليهِ مِن وجوهٍ:
          منها: هل هذا(4) في كلِّ وقتٍ أو في بعضِ الأوقاتِ؟ فالجوابُ: أنَّه(5) إذا كانَ في الأوقات المَنهِيِّ عنها التي لا يمكنُ الصَّلاةُ فيها، فلا يُستحَبُّ إذْ ذاكَ دخولُه البلدَ مِن أجلِ عدمِ الصلاةِ التي مِن أجلِها تُؤتَى المساجِدُ؛ لأنه إن(6) كانَ المُسافِرُ في سفرِهِ على السُّنَّةِ فلا يكونُ(7) دخولُهُ المِصْرَ الذي فيهِ(8) منزِلُهُ إلا في وقتٍ يجوزُ لهُ فيهِ الصلاةُ؛ لأنَّ النبيَّ صلعم لم يكنْ يدخلُ المدينةَ إذا قدِمَ مِن سفرٍ(9) إلَّا ضَحوةَ النهارِ، وكانَ يَنهى أنْ يأتيَ أحدٌ أهلَه طُروقًا، أي: ليلًا(10)، وكانَ أيضًا(11) إذا خرجَ صلعم (12) ركعَ في المسجدِ، وحينئذٍ يخرجُ.
          وهل ذلكَ تعبُّدٌ أو معقولُ المَعنى؟ فإن قُلنَا: إنه تعبُّدٌ فلا بحثَ(13)، وإن قُلنا: إنه لحكمةٍ، فما هِيَ؟ فالجوابُ واللهُ أعلمُ: إنَّه على طريقِ التبرُّكِ وإظهارِ الافتقارِ؛ لأنه صلعم كانَ إذا خرجَ إلى السفرِ يقولُ: «أَنتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ والخَليفَةُ في الأَهلِ والمَالِ»، وسفرُهُ ◙ لم يكنْ إلَّا في جهادٍ أو حجٍّ، وإذا رَجعَ قال: «آيِبُونَ تائِبونَ عَابِدونَ، لربِّنا حَامِدونَ، صَدَقَ اللهُ وعدَهُ ونَصَرَ عَبدَهُ وهَزَمَ الأحزابَ وحدَهُ»، وإعلانُه(14) ◙ بالقولِ عندَ الدخولِ والخروجِ إظهارٌ(15) للتعلُّقِ باللهِ واللَّجَأِ والتبرُّئ إلى اللهِ في الأفعالِ والأقوالِ، فكذلكَ(16) تفضيلُه ◙ بيتَ ربِّه ╡ على سائرِ الأماكنِ فيكونُ الحالُ مثلَ المَقالِ.
          ويترتَّبُ على هذا(17) مِن الفقهِ أنَّ المُؤمِنَ ينبغي أن يكونَ في(18) فعلِه يُصَدِّقُ قولَه، وقد / ذمَّ اللهُ ╡ (19) المؤمنين الذينَ ليسوا كذلك بقولِهِ تعالى(20) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2].
          وفيهِ دليلٌ على أنَّ الصحابةَ ♥(21) كانوا يقتدونَ(22) بأفعالِه ◙ كما يقتدونَ بأقوالِه، يُؤخَذُ ذلكَ مِن إخبارِ هذه(23) السيِّدةِ(24) بذلكَ، فلو لم(25) يكنْ كذلكَ لما كانَ يكونُ لإخبارِها(26) بذلكَ فائدةٌ، ولا كانَ لروايته(27) أيضًا فائدةٌ، وقد اختلفَ العلماءُ في أفعالِه صلعم هل تُحمَل على الوجوبِ أو على النَدبِ أو على التوقُّفِ حتى يدلَّ الدليلُ على أحدِ الوَجهَينِ؟ ولم يقلْ أحدٌ بتركِ الاقتداءِ بهِ فيها وتركِ العملِ بها.
          وفي الحديثِ دليلٌ على التبرُّكِ بكلِّ ما جُعلتْ لهُ حُرمَةٌ وترفُّعٌ(28) إلَّا أنه يكونُ ذلكَ على لسانِ العلمِ، فيُؤخَذُ(29) وجهُ التبرُّكِ مِن كونِ سيِّدنا صلعم يبدأُ بالمسجدِ تبرُّكًا، فكذلكَ(30) كلُّ ما جَعَلَ اللهُ ╡ فيهِ وجهًا ما(31) مِنَ الخيرِ، والدليلُ على أنَّ ذلكَ(32) يكونُ على لسانِ العلمِ أنَّه صلعم (33) لم يفعلْ فيهِ إلا الصلاةَ التي مِن أجلِها رُفِعَ(34)، فكذلكَ يلزَمُ في غيره(35) أنْ لا يكونَ تعظيمُه والتبركُ به إلَّا على الوجهِ المشروعِ(36).
          ولهذا المَعنى كانَ أهل الصُّوفَةِ أكثرَ الناسِ احترامًا لِمَا جُعِلَ له حُرمَةٌ، وأن يكونَ ذلكَ الاحترامُ على لسانِ العلمِ كما تقدَّمَ، حتى إنه يُذكَرُ عن بعضِ الأكابرِ منهم أنه دخلَ المسجدَ فنسِيَ وقدَّم(37) رجلَهُ الشمال(38)، فوقعَ مَغشيًّا عليهِ لشدَّة الحياءِ منَ اللهِ ╡ (39) لكونِه وقعتْ منهُ مُخالفةٌ للسنَّةِ في دخولِ بيتِ ربِّه ╡ (40)، لأنَّ السنَّةَ في دخولِ المسجدِ تقديمُ الرِّجلِ اليمنى(41)، وقد قالَ العلماءُ ♥: مَن نَسِيَ فقدَّمَ الشمالَ(42) أخرجَها(43) وقدَّمَ اليمينَ، فإنَّهُ معذورٌ بالنسيانِ، فانظرْ إلى احترامِ هذا السيِّدِ كيفَ كانَ وهو فيما وقعَ منه(44) مَعذورٌ / على لسانِ العلمِ، فنَاهِيكَ في غيرِه(45)، وفَّقنا اللهُ لِمَا مَنَّ به عليهم وأسعدنا به بمنَّه وكرمه(46).

[1] قوله: ((☺)) ليس في (ف)..
[2] في (ج): ((إلى)).
[3] في (ج): ((سفره)).
[4] قوله: ((هذا)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[5] في (ل) و(ف): ((أن ذلك)).
[6] في (ج): ((إذا)).
[7] في (ل) و(ف): ((فإنه إذا كان كذلك لا يكون)).
[8] في (م): ((في)).
[9] في (ج) و(م): ((سفره)).
[10] قوله: ((أي ليلا)) ليس في (م)، وقوله: ((طروقاً أي)) ليس في (ل).
[11] قوله: ((وكان أيضاً)) زيادة من (ج) و (م) على النسخ.
[12] في (ف): ((◙)).
[13] في (م): ((يجب)).
[14] في (ج): ((وإعلامه)).
[15] في (ل): ((إظهاراً)).
[16] في (ط): ((فذلك))، وفي (ل): ((كذلك)).
[17] في (ج) و(م) و(ل) و(ف): ((عليه)).
[18] قوله: ((في)) ليس في (م) و(ل) و(ف).
[19] في (ف): ((الله سبحانه)).
[20] قوله: ((تعالى)) ليس في (ف)..
[21] قوله: ((♥)) ليس في (ف)..
[22] قوله: ((يقتدون)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[23] في (ج): ((هذا السيد)).
[24] في (ج): ((السيد)).
[25] في (م): ((فولم)).
[26] في (ج) و(ل): ((لإخباره))، وفي (م): ((بإخبارها)).
[27] في (ط): ((لرؤيته))، وفي (ج): ((لزاويته))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[28] في (ل): ((ويرفع)).
[29] زاد في (ف): ((من)).
[30] في (ف): ((فلذلك)).
[31] قوله: ((ما)) ليس في (ج) و(ف).
[32] قوله: ((ذلك)) ليس في (ل) و(ف).
[33] في (ف): ((◙)).
[34] في (ف): ((ترفع)).
[35] في (ج): ((فيه)).
[36] في (ف): ((وجه مشروع)).
[37] في (م): ((وقد تم)).
[38] في (ج) و(م): ((اليسار)).
[39] قوله: ((╡)) ليس في (ف)..
[40] في (ف): ((بيته ╡)).
[41] في (ج): ((اليمين)).
[42] في (ج) و(م): ((اليسار)).
[43] في (المطبوع): ((أُخْرِجَ)).
[44] قوله: ((منه)) ليس في (ج).
[45] في (م): ((لغيره)).
[46] قوله: ((وكرمه)) ليس في (م) و(ل).