168- قوله صلعم : (أَمَا إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ، قَالَ: بِسْمِ اللهِ...) الحديث. [خ¦3271]
          ظاهر الحديث يَدُلُّ عَلَى أنَّ مَن سمَّى الله تعالى عند إتيانه أهلَه، وذكر ذلك الدُّعاء المذكور فيه فإنه إن قضي بينهما بمولود لا يضرُّه الشيطان، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أن يقال: ما معنى لم يضرَّه؟ هل ذلك مطلق طوال⁽¹⁾ حياته أو عند الولادة؟ لأنَّ كل مولود يولد يَطعَن الشيطان في خاصِرته، فمِن ذلك هو صراخ المولود عند وقوعه مِن بطن أمِّه، إلا عيسى ◙ فإنه لم يَقرَبْهُ الشيطان، وأمَّا سيِّدنا رسول الله صلعم فعند ولادته وقع ╕ معتمدًا على يديه رافعًا طرفه إلى السماء، وتلقته الملائكة، ورُجِمت الشياطين⁽²⁾ بالشهب مِن السماء، وطُفِئت نار فارس، وارتجَّ إيوان كسرى، وظهر له ╕ نورٌ سدَّ الفضاء.
          فظاهر الحديث / يعطي العموم وأنَّه لا يضرُّه طول حياته ويكون معنى (لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ)⁽³⁾: لا يقدر عليه بإغواء، ويكون ممن قال الله ╡ فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42] فانظر إلى هذا الخير العظيم ما أعظمه! وذلك⁽⁴⁾ بقليل مِن الفعل لكن مع ذلك ما أقلَّ فاعله! فما ينفع البيان إذا وقع الحرمان.
          وهنا بحث وهو: متى تكون التسمية؟ ذكر بعضهم أنَّها تكون عند الإيلاج، وقد جاء مِن طريق آخر أن يسمِّي خاصَّة وأنَّه تكون⁽⁵⁾ الحمايةُ للمولود مثل ما ذكر في هذا الحديث.
          وفيه دليل: على أنَّ أنجح الأسباب في دفع المضارِّ في الدارين ذكرُ اسم⁽⁶⁾ الله تعالى، أمَّا في هذه الدار فيما نحن بسبيله وما أشبه ذلك مِن الآي والأحاديث مثل قوله صلعم : «مَا عَمِلَ آدَمَيٌّ مِنْ عَمَلٍ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ ذكرِ اللهِ» والآي والأثر في ذلك كثير.
          ومما يناسب هذا ما ذُكِرَ عن بعض المباركين وكان شيخًا ضعيفًا، فبينما هو يومًا في بعض أسفاره إذ خرج عليه لصٌّ فيه شجاعة وكان معروفًا بذلك ويلقى الجموع وحدَه وينال منهم، ولم يقدر أحد أن ينال منه، فلمَّا قرب مِن الشيخ صرعه الشيخ⁽⁷⁾ وأراد أن يُجهِز عليه فناشده الله تعالى ورغَّبه في الإقالة فأقاله، فلمَّا تباعد منه عظم الأمر عليه لكونه شيخًا ضعيفًا / وغلبه ولم يغلبه أحد قبله، فتعرَّض له⁽⁸⁾ ثانية ففعل به كما تقدَّم، ثمَّ ثالثة كذلك فسأله: بمَ لك هذه القدرة وأنا فلان كما تعلم شهرتي وأنت على ما أنت عليه مِن الكبر والضعف؟ فقال له: ما قابلت أحدًا قطُّ إلا بـ(بسم الله الرَّحمن الرَّحيم)، وكلُّ مَن عارضني فعلتُ به مثلما فعلتُ فيك⁽⁹⁾، فحينئذٍ تركه ولم يطمع فيه، وعلم أنَّ هذا ليس مِن قوة البشر.
          (نكتة صوفية) وهي: لَمَّا كان⁽¹⁰⁾ الجِماع أكبر شهوات النفس فَآثر⁽¹¹⁾ هذا الممتثل ذكر اسم الله تعالى على حظِّ نفسه أثمرت له⁽¹²⁾ هذه الفائدة العظمى، هذا في لحظة مِن الزمان، فكيف مَن آثر ذكره ╡ دائمًا؟ كيف يكون حاله؟
          ولذلك جاء في التوراة: «قلْ لأهلِ محبَّتِي يُكْثِرُونَ منْ ذِكْرِي فَإِنَّه لَهُمْ في الدُّنْيَا أُنْسٌ وفي الآخرةِ جزاءٌ» أو كما قال ╡ ⁽¹³⁾، وقال ╡ ⁽¹⁴⁾ في كتابه العزيز: {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فلا تحصل الطمأنينة⁽¹⁵⁾ والخير إلا بذكره⁽¹⁶⁾ جلَّ جلاله، وقد جاء في بعض الآثار: «لو أنَّ رَجُلَين⁽¹⁷⁾ أحدهما ينفق⁽¹⁸⁾ المال، والآخر يديم الذِّكْر لكان الذي يديم الذِّكْر أرفع وأكثر أجرًا».
          وفيه: أنَّ مِن أدب الشريعة حسن الكناية كما تقدَّم في الحديث قبل، يؤخذ ذلك مِن قوله صلعم : (أَتَى أَهْلَهُ) فكنَّى / ╕ بالإتيان عن⁽¹⁹⁾ الجِماع.
          وفيه: دليل على حسن بلاغته صلعم، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (فَرُزِقَا وَلَدًا لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ) وسكت عن حالهما كيف يكون⁽²⁰⁾، لأنَّه إذا كان مِن أجل فعل الأب ذلك الخيرَ وصلت العناية إلى المولود فمِن باب أحرى القائلُ⁽²¹⁾ وصاحبه، كما قال ╕ في قارئ القرآن: (أنَّ والِدَيْهِ يُتَوَّجانِ يومَ القيامةِ بتَاجَيْنِ⁽²²⁾ مِنْ ذَهَبٍ يُضِيئانِ لأهلِ عالم تلك الدارِ كما تضيءُ الشَّمسُ في بيوتِ أهلِ الدُّنيا)، أو كما قال ◙ ، فإذا كان يفعل بوالديه⁽²³⁾ مِن أجل ذلك الخير، فكيف يكون حاله هو؟ فسكت ╕ في الموضعين عن حال الفاعلين لدلالة الكلام على حسن حالهما.
          وفيه دليل على أنَّ الولد يلحق في الدِّين بأبيه، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (أَمَا⁽²⁴⁾ إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ) ولم يفرِّق بين الأهل أن تكون مسلمة أو يهودية أو نصرانية، لأنَّ هؤلاء ممَّا أُبِيْحَ لنا نكاحهنَّ، فلمَّا أن⁽²⁵⁾ كان الولد ملحوقًا بالأب في دينه كان عمله يؤثر فيه.
          وفيه دليل على أنَّ اسم الولد⁽²⁶⁾ ينطلق لغة على الذكر والأنثى، يؤخذ ذلك مِن قوله صلعم : (فَرُزِقَا وَلَدًا).
          وفيه دليل على منفعة الأبوين في المولود على حدٍّ سواء، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (فَرُزِقَا)⁽²⁷⁾.
          وفيه دليل على أنَّ إضافة المولود إلى الوالدين بالفضل لا بالاستحقاق، يؤخذ ذلك مِن قوله / ◙ : (فرُزِقَا) ولم يقل⁽²⁸⁾ كَسَبا، ولا فَعَلا كما قال ╡ في كتابه العزيز: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ.أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:58- 59] إلى قوله تعالى⁽²⁹⁾: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:63- 64].
          فانظر إلى هذه القدرة العظيمة والفضل العميم كيف أباح ╡ لنا التَّمتُّع بشهوة الجِماع، وتفضَّل علينا بالولد ثمَّ أضافه إلينا، وأثابنا على ذلك، وجعل لنا فيهم المنفعة في الدارين، ثمَّ بيَّن لنا أنَّ الذي أضاف إلينا من التسبُّب في الولد وأثابنا عليه أنَّه في الحقيقة ليس مِن كسبنا، وأنَّه مِنَّةٌ ومنحةٌ منه ╡ لنا، لنقدِّر قدر النعمة ونتلقَّاها بالشكر، فتكثر الفائدة ونحذر مِن الطرف الآخر وهو أن نميل إليهم فتكون النعمة تشغل عن المنعم، قال ╡ في كتابه⁽³⁰⁾: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9] فمَن فهم المقصود اشتغل بالمنعِم عن النِّعَم فحصل له رضا المنعِم وكثرة النعَم، كما قال جلَّ جلاله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] لكنَّ وجود الغفلة أوجبت حبَّ النِّعَم والشغل عن المنعِم، و(حبُّك الشيء يعمي ويُصِمُّ).
          وفيه دليل على أنَّه إذا صلح⁽³¹⁾ الأصل صلح الفرع، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (أَمَا إِنَّ أَحَدَكُمْ / إِذَا أَتَى أَهْلَهُ، قَالَ⁽³²⁾: بِسْمِ اللهِ) فإنه لمَّا كان بمقتضى الحكمة⁽³³⁾ على ما أخبر به الصادق صلعم في غير هذا الحديث أنَّ العظم والعَصَب الذي هو أصل هذه الجثَّة هو مِن ماء الرَّجُل، وأنَّ اللحم والشعر مِن ماء المرأة، فلمَّا صلح حال الرجل الذي مِن مائه يكون أصل هذه البنية لم يلتفت إلى حال المرأة، لأنَّها في حكم التبع.
          وفيه دليل لمقتضى⁽³⁴⁾ اللغة وهو أنَّه إذا اجتمع المذكر والمؤنث غُلِّب في الخطاب وفي الإخبار المذكَّرُ⁽³⁵⁾ وإن قَلَّ، يؤخذ ذلك مِن أنَّه لَمَّا أن⁽³⁶⁾ كان الولد مِن ماء الرجلِ والمرأةِ غَلَّب ╕ التذكير على التأنيث وأَعطى الحكمَ للرجل، فإنَّه⁽³⁷⁾ إذا فعل ما أُمِرَ به مِن التسمية حَسُن حالُهُ وحالُ الولد، ولم يكن للمرأة فيه⁽³⁸⁾ ذكر.
          وفيه دليل على أنَّه إذا صلح الراعي صلحت الرعية، يؤخذ ذلك مِن أنَّ الرجل هو الراعي على أهله وولده كما تقدَّم⁽³⁹⁾ في الأحاديث⁽⁴⁰⁾ قبل، فلمَّا صلح حاله بامتثال ما أُمِرَ به مِن التسمية صلح حال المرأة والولد بعد.
          ومِن هنا⁽⁴¹⁾ فاق أهل التوفيق غيرهم، لأنَّهُم نظروا إلى الأصول فأصلحوها⁽⁴²⁾ فصلحت لهم الفروع والأصول، والأصل عندهم هو حقيقة الإيمان والمعرفة بالمعبود على ما هو عليه مِن الجلال والكمال، فمَن تحقَّق بهذين الأمرَينِ حتَّى رجعا له حالًا أتاه التوفيق فيما سوى ذلك بغير اختياره⁽⁴³⁾.
          ولذلك لَمَّا تحقق الإمام علي / ☺ وعن الصَّحابة أجمعين كان مِن دعائه: (اللهُمَّ إنَّك أنت كما أحبُّ فاجعلني كما تحبُّ)، فانظر إلى هذا الكلام العجيب مِن هذا الحبيب، لأنَّ العبد إنَّما يحبُّ أن يكون مولاه غنيًا كريمًا رحيمًا قويًا محسنًا عفوًّا غفورًا ومولانا جلَّ جلاله جمع هذه الأوصاف وزيادة مِن أوصاف الكمال ما لا تحصى، فهو كما نحبُّ وهو القادر، والعبد الضعيف العاجز يرغب منه أن يجعله كما يحبُّ، مَنَّ الله علينا بذلك بفضله⁽⁴⁴⁾.