غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

علي بن الحسين

          936 # عليُّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب، أبو الحسن، وأبو محمَّد، ويقال: أبو الحسين(1) . الملقَّب بزين العابدين، الهاشميُّ، المدنيُّ، التَّابعيُّ.
          ثقة، ثبت، عابد، فقيه، فاضل، مشهور، قال الزُّهريُّ: ما رأيت قرشياً أفضل منه.
          حدَّث عن: أبيه الحسين، وصَفِيَّةَ بنتِ حُيَيٍّ أمِّ المؤمنين، والمِسْوَرِ بنِ مَخْرَمةَ، ومروانَ بنِ الحَكَم، وسعيدِ بنِ مَرْجَانَةَ، وغيرهم.
          روى عنه: الزُّهريُّ، وزيد بن أسلم، والحكم بن عُيينة.
          نقل عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: في باب من قال في الخطبة بعد الثَّناء: أمَّا بعد. من كتاب الجمعة [خ¦926] .
          قال القاضي شمس الدِّين ابن خَلِّكان(2) : ويقال لزين العابدين: عليٌّ الأصغر. وليس للحسين عقب إلَّا من ولد زين العابدين، وهو أحد الأئمَّة الاثني عشر، من سادات التَّابعين، وأمُّه سَلاَمة بنت يَزْدَجَرْدَ، آخر ملوك فارس، [تتبع قتيبة بن مسلم أمير خراسان دولة الفرس، وقتل أخا سلامة(3) وهو فيروز بن يزدجرد،] وبعث بابنتيه(4) إلى الحجَّاج بن يوسف، وكان أمير العراق وخراسان، وكان قتيبة نائبه بخراسان، فأمسك الحجَّاج أحديهما(5) لنفسه، وأرسل الأخرى للوليد بن عبد الملك، فأولدها يزيد النَّاقص، واسمها شاه فِرِنْد، بمعجمة بعدها ألف، ثمَّ هاء، ثمَّ فاء وراء مكسورتين، ثمَّ نون ساكنة، آخرها دال مهملة، وسمِّي ناقصاً؛ لأنَّه نقص النَّاس عطاياهم، وكان يقال لزين العابدين: / ابن الخِيْرتين؛ لقوله صلعم: «لله تعالى من عباده خِيْرتان، فخِيْرته من العرب قريش، ومن العجم فارس».
          قال الزَّمخشريُّ في ربيع الأبرار(6) : إنَّ الصَّحابة لما أتوا بسبي فارس في خلافة عمر بن الخطَّاب كان فيهم ثلاث بنات ليزدجرد، فباعوا السَّبايا، وأمر عمر ببيع بنات يزدجرد أيضاً، فقال عليُّ بن أبي طالب: إنَّ بنات الملوك لا يعاملن معاملة بنات السُّوقة. قال: فكيف الطَّريق؟ قال: يقوَّمْنَ، ومهما بلغ ثمنهنَّ قام به من يختارهنَّ. فقوِّمْنَ، وأخذهنَّ عليٌّ، ودفع واحدة لعبد الله بن عمر، وأخرى لولد نفسه الحسين، والأخرى لمحمَّد بن أبي بكر الصِّدِّيق، فأولد عبد الله أمته سالماً، وأولد محمَّد أمته قاسماً، وأولد الحسين أمته زين العابدين، فهؤلاء الثَّلاثة بنو خالة، أمَّهاتهم بنات يزدجرد.
          قال المبرد(7) عن قرشيٍّ(8) : قال: كنت عند سعيد بن المسيَّب، فقال لي: من أخوالك؟ فقلت: أمِّي فتاة، فكأنِّي نقصت من عينه، فأمهلته حتَّى دخل عليه سالم بن عبد الله، فلمَّا خرج من عنده، قلت: يا عمُّ، من هذا؟ قال: سبحان الله! أتجهل هذا؟ (هذا) هو سالم بن عبد الله. قلت: فمن أمُّه؟ قال فتاة. ثمَّ أتاه القاسم بن محمَّد، فجلس عنده، ثمَّ نهض، قلت: يا عمُّ، من هذا؟ قال: أتجهل من أهلك مثله؟ هذا القاسم بن محمَّد بن أبي بكر. قلت: فمن أمُّه؟ قال: فتاة. (قال): فأمهلت حتَّى جاء زين العابدين، فسَّلم عليه، ثمَّ نهض، فقلت: يا عمُّ، من هذا؟ قال: هذا الذي لا يسع مسلماً أن يجهله، هذا عليُّ بن الحسين. قلت: من أمُّه؟ قال: فتاة. قلت: يا عمُّ، رأيتني نقصت من عينك لمَّا علمت أنَّ أمِّي فتاة، فمالي في هؤلاء أسوة؟ فجللت في عينه جدًّا، وكان أهل (المدينة) يكرهون اتِّخاذ أمَّهات الأولاد؛ حتَّى نشأ فيهم زين العابدين، والقاسم، وسالم، وكان زين العابدين كثير البرِّ بوالدته؛ حتَّى قيل له: إنَّك أبرُّ النَّاس بأمِّك، ولم نرك تأكل معها في صحفة(9) . فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها.
          وحكى ابن قتيبة أنَّ أمَّ زين العابدين سِنْدية، وكانت ولادته يوم الجمعة، سنة ثمان وثلاثين للهجرة.
          قال السُّبكيُّ في طبقاته الكبرى(10) : حجَّ هشام بن عبد الملك، [زمن عبد الملك] أبو الوليد(11) ، فطاف بالبيت، فجهد أن يصل إلى الحجر فيستلمه، فلم يقدر له (من الازدحام)، فنصب له منبر، فجلس عليه ينظر إلى النَّاس، ومعه أهل الشَّام؛ إذ أقبل زين العابدين، من أحسن النَّاس وجهاً، وأطيبهم أرجاً، وطاف بالبيت، فلمَّا بلغ الحجر، تنحَّى له النَّاس حتَّى استلمه، فقيل له: من هذا الذي هابه النَّاس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه؛ مخافة أن يرغب فيه أهل الشَّام، وكان / الفرزدق حاضراً، فقال الفرزدق: لكنِّي أعرفه. قال الشَّاميُّ: من هو يا أبا فراس؟ فقال الفرزدق(12) من _البحر البسيط_:
هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأتَه                     والبيت يعرفه والحِلُّ والحَرَمُ
هذا ابن خير(13) عباد الله كلِّهم                     هذا التَّقيُّ النَّقيُّ الطَّاهر العَلَم
إذا رأته قريش قال قائلها(14)                      إلى مكارمِ هذا ينتهي الكرم
يَنْمِي إلى ذروة العزِّ التي قصرت                     عن نيلها عَرَبُ الإسلام والعَجَم
يكاد يمسكه عرفانُ راحتِه                     رُكْنَ الحَطيم إذا ما جاء يستلم
(في كفِّه خيزران ريحُه عَبِقٌ                     من كفِّ أروعَ في عِرْنينه شَمَم)
يُغْضِي حياء ويُغْضَى من مهابته                     فما يكلَّم إلَّا حين يبتسم
من جدُّه دان فضل الأنبياء له                     وفضلُ أمتِه دانتْ له الأُمم
ينشقُّ نُور الهدى عن نُورِ غُرَّتِه                     كالشَّمس يَنْجَابُ عن إشراقها القَتَم
مشتقَّةٌ من رسول الله نبعتُه                     طابت عناصرُه والخِيْم والشِّيَم
هذا ابنُ فاطمةٍ إن كنتَ تجهلُه                     بجَدِّه أنبياء الله قد خُتِموا
الله شرَّفه قِدْماً وفضَّله                     جرى بذاك له في لوحه القلم
فليس قولُك مَنْ هذا بضائرِه                     العُرْبُ تعرف من أنكرتَ والعَجَمُ
كلتا يديه غياثٌ عَمَّ نفعُهما                     يستوكفان ولا يَعْرُوهما العَدَم
سَهْلُ الخليقة لا تُخشى بَوادِرُه                     يَزِينه اثنانِ حسنُ الخُلْقِ والكرم(15)
حَمَّالُ أثقالِ أقوامٍ إذا فَدَحُوا(16)                      حلو الشَّمائلِ يحلو عنده نعم
لا يخلف الوعد ميمون طليعتُه(17)                      رَحْبُ الفناء أَرِيْبٌ حين يعتزِم
عَمَّ البريَّةَ بالإحسان فانقشعت                     عنه الغيابة والإملاق والعدم(18)
من معشرٍ حبُّهم دينٌ وبغضُهُمُ                     كفرٌ وقربُهم منجى ومعتصَم
إن عُدَّ أهلُ التُّقى كانوا أئمَّتَهم                     أو قيل مَنْ خيرُ أهلِ الأرضِ قيل هُمُ
لا يستطيع جوادٌ بعد غايتهم                     ولا يدانيهمُ قوم وإن كرموا
هم الغُيوث إذا ما أزمة أزمت                     والأسد أسد الشَّرَى والبأسُ محتدم
لا ينقص العسرُ بسطاً من أكفِّهم                     سِيَّان ذلك إن أثروا وإن عدموا
يستدفع السُّوء والبلوى بحبِّهمُ                     ويستزاد به الإحسان والنِّعم
مقدَّم بعد ذكر الله ذكرهمُ                     في كلِّ بدء ومختوم به الكَلِم
يأبى بهم أن يحلَّ الذَمُّ ساحتهم                     خِيْمٌ كريم ووويْدٍ(19) بالنَّدى هُضُم
أيُّ الخلائق ليست في رقابهم                     لأوَّليَّة هذا أَوْلَهُ نعم
من يعرف الله يعرف أوَّليَّة ذا(20)                      والدِّين من بيتِ هذا ناله الأَمَم
          قال أبو نعيم الأصفهانيُّ(21) : كان زين العابدينُ، منار القانتين، عابداً وفيًّا، وجواداً حفيًّا، كان إذا فرغ من الوضوء، وكان بين وضوئه وصلاته أخذته رعدة، فقيل له في ذلك، فقال: ويحكم! أتدرون بين يدي مَنْ أقوم، ومن أريد أن أناجي؟ وقال: إنَّ الجسد إذا لم يمرض أشر، ولا خير في جسد يأشر. /
           وقال: فَقْدُ الأحبة غربة. وكان يقول: اللهم إنِّي أعوذ بك أن تحسِّن في لوامع العيون علانيتي، وتقبِّح في خفيات(22) العيون سرِّي، اللهم كما أسأتُ وأحسنتَ إليَّ، فإذا عدتُ فَعُدْ عليَّ. وكان يقول: إنَّ قوماً عبدوا الله رهبة، [خوفاً من العذاب،] فتلك عبادة العبيد، وآخرين عبدوه رغبة [في الثَّواب] ، فتلك عبادة التُّجَّار، وقوماً عبدوا الله شكراً، فتلك عبادة الأحرار.
          قال أبو حمزة الثُّماليُّ(23) : أتيت باب زين العابدين، فكرهت أن أصوِّت، فقعدت حتَّى خرج، فسَّلمت عليه، ودعوت له، فردَّ عليَّ السَّلام، ودعا لي، ثمَّ انتهى إلى حائط له، فقال: يا أبا حمزة! ترى هذا الحائط؟ قلت: نعم. قال: إنِّي اتَّكأت عليه يوماً وأنا حزين، فإذا رجل حسن الوجه، حسن الثِّياب، ينظر في تجاه وجهي، ثمَّ قال: يا عليُّ بن الحسين، ما لي أراك حزيناً؟ أعلى الدُّنيا؟ فهو رزق حاضر يأكل منها البرُّ والفاجر. فقلت: ما على(24) هذا أحزن. فقال: على الآخرة؟ هو وعد صدق، يحكم فيها ملك قاهر. قلت: ما على هذا أحزن؛ لأنَّه كما قلت، قال: وما حزنك يا عليُّ؟ قلت: ما أتخوَّف(25) إلَّا من فتنة ابن الزُّبير. قال: يا عليُّ، هل رأيت أحداً سأل الله فلم يعطه؟ قلت: لا. قال: فهل رأيت أحداً خاف الله فلم يكفه؟ قلت: لا. ثمَّ غاب عنِّي، فقيل لي: يا عليُّ، هذا الخضر ناجاك(26) .
          قال الزُّهريُّ: شهدت زين العابدين يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشَّام، فأثقله حديداً، ووكَّل به حفَّاظاً، فاستأذنتهم في التَّسليم عليه والتَّوديع، فأذنوا لي، فدخلت عليه، وهو في قبَّة، والأقياد في رجليه، والغُلُّ في يديه، فبكيت، وقلت: وددت أنِّي مكانك، وأنت سالم. فقال: يا زهريُّ، أوتظنُّ أنَّ هذا ممَّا ترى عليَّ _وفي عنقي_ يكربني؟ أما لو شئت ما كان، فإنَّه وإن بلغ بك ومن أمثالك ليذكِّرني عذاب الله. ثمَّ أخرج يديه من الغُلِّ ورجليه من القيد، ثمَّ قال: يا زهريُّ، لا(27) جُزْتُ معهم على (ذا) منزلتين من المدينة. قال: فما لبثنا [إلَّا] أربع ليالي حتَّى قدم الموكَّلون به يطلبونه من المدينة، فما وجدوه، وكنت فيمن سألهم عنه، فقال لي بعضهم: إنَّا نراه متبوعاً، إنَّه لنازل، ونحن حوله نرصده، إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله(28) إلَّا حديدة. قال الُّزهريُّ: فقدمت بعد ذلك على عبد الملك بن مروان، فسألني عن زين العابدين، فأخبرته، فقال: إنَّه قد جاءني يومَ فقد(29) الأعوان، فدخل عليَّ، فقال: ما أنا وأنت؟ فقلت: أقم عندي. فقال: لا أحبُّ. ثمَّ خرج، فوالله لقد امتلأ ثوبي منه خيفة. قال الزُّهريُّ: فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس عليُّ بن الحسين حيث تظنُّ، إنَّه مشغول بنفسه. فقال: حبَّذا شغل(30) مثله، فنعم ما شغل به. وكان الزُّهريُّ إذا ذكر عليَّ بن الحسين يبكي، ويقول: زين العابدين.
          قال زين العابدين: من قنع بما قسم الله له فهو من أغنى النَّاس. وكان يحمل جراب الخبز باللَّيل على ظهره، ويتصدَّق به، ويقول: صدقة السِّرِّ تطفىء غضب الرَّبِّ. ولما مات وجدوه يقوت مئة أهل / بيت بالمدينة، ولمَّا مات وجدوا بظهره آثاراً سوداء ممَّا كان يحمل جُرُب(31) الدَّقيق ليلاً على ظهره، يعطيه فقراء أهل المدينة والمساكين، وكان أناس من المدينة يعيشون، لا يدرون من أين [كان] معاشهم؟ فلمَّا مات زين العابدين فقدوا ما كانوا يؤتون به باللَّيل، وقال أهل المدينة: ما فقدنا صدقة السِّرِّ حتَّى مات زين العابدين. وأعتق عبداً له كان عبد الله بن جعفر أعطاه به عشرة آلاف درهم، أو ألف دينار، وأتى نفر من أهل العراق، فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم أجمعين، فلمَّا فرغوا قال لهم زين العابدين: ألا تخبروني، أنتم المهاجرون الأوَّلون { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ } [الحشر:8] قالوا: لا. قال: فأنتم الذين { تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}؟ [الحشر:9] قالوا: لا. قال: أمَّا أنتم فقد تبرَّأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين، ثمَّ قال: أشهد أنَّكم لستم من الذين قال الله تعالى فيهم: { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا } [الحشر:10] اخرجوا عنِّي، فَعَل الله بكم، يا معشر أهل العراق! يا معشر أهل الكوفة! أحبُّونا(32) حبَّ الإسلام، ولا ترفعونا فوق حقِّنا، فما برح بنا حبُّكم حتَّى صار علينا عاراً. وقال: ما أحبُّ أنَّ لي بنصيبي من الذُّلِّ حُمْرَ النَّعم. وكان إذا ناول الصَّدقة السَّائل(33) قبَّله، ثمَّ أعطاه، وقال نافع بن جبير لزين العابدين: غفر الله لك، أنت سيِّد النَّاس وأفضلهم، تذهب إلى هذا العبد _يعني زيد بن أسلم_ فتجلس [معه؟! فقال: ينبغي للعلم أن يُتبع حيثما كان. وكان يتخطَّى حِلَق قومه حتَّى يأتي زيد بن أسلم، فيجلس] عنده، فقال: إنَّما يجلس الرجل إلى من ينفعه. وكان كثير البكاء، فسئل عن ذلك، فقال: لا تلوموني، فإنَّ يعقوب فقد ولداً من ولده، فبكى حتَّى ابيضت عيناه، ولم يعلم أنَّه مات، وقد نظرتُ إلى أربعة عشر رجلاً من أهل بيتي في غزاة واحدة (قتلوا)، فترون حزنهم يذهب من قلبي؟ وقال لابنه: يا بنيَّ، اصبر على النَّوائب، ولا تعترض(34) للحقوق، ولا تجب أخاك في الأمر الذي مضرَّته عليك أكثر من منفعته له. وسمع ناعية(35) في بيته، فنهض إلى بيته، ثمَّ رجع إلى مجلسه، فقيل له: أمن حدث كانت النَّاعية؟ قال: نعم. فعزَّوه، وتعجَّبوا من صبره، فقال: إنَّا أهل بيت نطيع الله فيما نحبُّ، ونحمده فيما نكره. وقال: إذا كان يوم القيامة ينادي(36) مناد: أين أهل الصَّبر؟ فيقوم ناس، فيقال: علامَ صبرتم؟ قالوا: صبرنا على طاعة الله، وصبرنا عن معصية الله(37) . فيقال: صدقتم، أدخلوهم الجنَّة، فنعم أجر العاملين. ونادى مناد: ليقم أهل الفضل. فيقوم أناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنَّة. فتلقَّاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنَّة. قالوا: قبل / الحساب!
          قالوا: نعم. قالوا: من أنتم؟ قالوا: أهل الفضل. قالوا: وما كان فضلكم؟ قالوا: كنَّا إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أُسيء إلينا غفرنا. قالوا: ادخلوا الجنَّة، فنعم أجر العاملين. ثمَّ ينادي مناد: ليقم جيران الله في داره. فيقوم أناس، وهم قليل، فيقال: انطلقوا إلى الجنَّة. فتتلقَّاهم(38) الملائكة، فيقولون(39) لهم مثل ذلك، فقالوا: بمَ جاورتم الله تعالى في داره؟ قالوا: كنَّا نتزاور في الله، ونتجالس في الله، ونتباذل في الله. قالوا: ادخلوا الجنَّة، فنعم أجر العاملين.
          وكان زين العابدين قاسَمَ الله تعالى ماله مرَّتين، وقال: إنَّ الله يحبُّ المؤمن المذنب(40) التَّوَّاب. وكان نقش خاتمه: القوَّة لله جميعاً، وقال: لا يقولنَّ أحدكم: اللهم تصدَّق عليَّ بالجنَّة؛ فإنَّما يتصدَّق أصحاب الذُّنوب، ولكن ليقل: اللهم ارزقني الجنَّة، اللهم مُنَّ عليَّ بالجنَّة.
          قلت: ذكر الدَّميريُّ في آخر قسم الصَّدقات(41) _نقلاً عن القرطبيِّ_ أنَّه يكره أن يقول الإنسان في دعائه: اللهم تصدَّق عليَّ بكذا؛ لأنَّ الصَّدقة إنَّما تكون ممَّن يبتغي الثَّواب، والله تعالى متفضِّل بالنَّوال، وبجميع النِّعم، لا ربَّ غيره، وسمع الحسن رجلاً يقول: اللهم تصدَّق عليَّ. فقال: إنَّ الله لا يتصدَّق، إنَّما يتصدَّق من يبتغي الثَّواب، أما سمعت قول الله ╡: { إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } [يوسف:88] قل: اللهم أعطني، وتفضَّل عليَّ. انتهى كلامه.
          قال رجل لسعيد بن المسيَّب: ما رأيت أحداً أورع من فلان. قال: هل رأيت زين العابدين؟ قال: [لا. قال:] ما رأيت أحداً أورع منه.
          وقال أبو حازم: ما رأيت هاشميًّا أفضل من عليِّ بن الحسين. وقد ذكرنا مثله عن الزُّهريِّ أيضاً.
          قال عمرو بن دينار: دخل زين العابدين على محمَّد بن أسامة بن زيد في مرضه، فجعل يبكي، قال له: ما شأنك؟ قال: عليَّ دين. قال: كم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار. قال: هو عليَّ.
          [قال في الإحياء(42) ، في باب حقوق الأخوة: إنَّ عليَّ بن الحسين قال لرجل: هل يدخل أحدكم يده في كمِّ أخيه أو كيسه فيأخذ منه ما يريد من غير إذن الأخ؟ قال: لا. قال(43) : فلستم بإخوان] .
          قال الزُّهريُّ: دخلت على علي بن الحسين، فقال: يا زهريُّ، فيمَ كنتم(44) ؟ قال: تذاكرنا الصَّوم، فأجمع رأيي ورأي أصحابي(45) على أنَّه ليس من الصَّوم شيء واجب إلَّا صوم رمضان. فقال: يا زهريُّ، ليس كما قلتم(46) ، الصَّوم على أربعين وجهاً: عشرة منها واجبة، كوجوب شهر رمضان، وعشرة منها حرام، وأربعة عشر صاحبها بالخيار، إن شاء صام، وإن شاء أفطر؛ صوم النَّذر واجب، وصوم الاعتكاف واجب. قلت: فسِّرها لي يا ابن رسول الله صلعم. قال: أمَّا الواجب، فصوم شهر رمضان، وصيام شهرين متتابعين في قتل الخطأ لمن لم يجد الرَّقبة، قال الله تعالى: { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا } [النساء:92] الآية، وصيام ثلاثة أيَّام في كفَّارة(47) اليمين لمن لم يجد الإطعام، قال الله تعالى: { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } [المائدة:89] الآية، وصيام حلق الرَّأس، قال الله تعالى: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ } [البقرة:196] [الآية] ، صاحبه بالخيار، إن شاء صام ثلاثة أيَّام، أو تصدَّق، وصوم دم التَّمتع لمن لم يجد الهدي، قال الله تعالى: { فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } [البقرة:196] الآية، وصوم / جزاء الصَّيد، قال الله تعالى: { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } [المائدة:95] الآية، وإنَّما يقوَّم الصَّيد ثمَّ(48) يخرج بتلك القيمة من الحنطة، وأمَّا الذي صاحبه بالخيار، فصوم يوم الاثنين والخميس، وستَّة أيَّام من شوَّال، ويوم عرفة وعاشوراء، كلُّ ذلك صاحبه بالخيار، إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وأمَّا صوم الإذن، فالمرأة لا تصوم تطوُّعاً إلَّا بإذن زوجها، وكذلك العبد والأمَّة، وأمَّا الصَّوم الحرام، فصوم يوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيَّام التَّشريق، ويوم الشَّكِّ، نهينا أن نصومه لرمضان، وصوم الوصال حرام، وصوم الصَّمت حرام، وصوم نذر المعصية حرام، وصوم الدَّهر حرام _قلت: هذا إذا صام العيدين، وأيَّام التَّشريق أيضاً_ والضَّيف لا يصوم تطوُّعاً إلَّا بإذن صاحبه، قال رسول الله صلعم «من نزل على قوم فلا يصومنَّ تطوَّعاً إلَّا بإذنهم». ويؤمر الصَّبيُّ بالصَّوم إذا لم يراهق تأديباً، وليس بفرض، وكذلك من أفطر لعلَّة من أوَّل النَّهار، ثمَّ وجد قوَّة في بدنه أمر بالإمساك، وذلك تأديب الله ╡، وليس بفرض، وكذلك المسافر إذا أكل من أوَّل النَّهار، ثمَّ قدم، أمر بالإمساك، وأمَّا صوم الإباحة، فمن أكل أو شرب ناسياً من غير عمد، فقد أبيح له ذلك، وأجزأه عن صومه، وأمَّا صوم المريض، وصوم المسافر، فإن العامَّة اختلفت فيه، فقال قوم: يصوم. وقال قوم: لا. وقال قوم: إن شاء. وأمَّا نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعاً، فإن صام في السَّفر والمرض فعليه القضاء. قال الله تعالى: { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة:184] قلت: هذا ليس مذهب أحد من الأئمَّة الأربعة، والآية مؤوَّلة بأنَّ فيها حذفاً، أو إضماراً تقديره: ومن كان مريضاً أو على سفر، فأفطر، فعدَّة من أيَّام أخر، يدلُّ لذلك ما روى أبو سعيد: سافرنا مع النَّبيِّ صلعم، ومنَّا الصَّائم، ومنَّا المفطر، ولا يعيب الصَّائم على المفطر، ولا المفطر على الصَّائم. وذلك في رمضان، وقال ابن عبَّاس: خرج رسول الله صلعم إلى مكَّة عام الفتح، فصام حتَّى بلغ الكُديد، ثمَّ أفطر، وأفطر النَّاس معه، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلعم. نعم مذهب ابن عبَّاس، وأبي هريرة، وعروة بن الزُّبير، كمذهب زين العابدين، واعلم أنَّ ابن عبَّاس [مذهب] مخالف لروايته، ونحن لا نعمل بمذهب الرَّاوي، كمذهب أبي هريرة في ولوغ الكلب، فإنَّه كان يغسل ثلاثاً، ويروي عن النَّبيِّ صلعم: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعاً إحداهنَّ بالتُّراب».(49) فتأمَّل.
          وتوفِّي زين العابدين بالمدينة، ودفن بالبقيع، في قبر عمِّه الحسن، في القبَّة التي فيها العبَّاس، سنة اثنتين(50) ، أو أربع، (أو تسع) وتسعين.


[1] في غير (ن): (الحسن).
[2] وفيات الأعيان:3/267.
[3] في (ن): (سلافة) وهكذا اسمها في الوفيات، والمثبت موافق لما ذكر قبلاً.
[4] في (ن) تصحيفاً: (بابنته).
[5] في غير (ن): (أحدهما).
[6] المؤلف ينقل عن وفيات الأعيان لابن خلكان:3/267، وقول الزمخشري فيه، وهو في ربيع الأبرار بالمعنى:1/402، 3/545.
[7] الكامل في اللغة والأدب:2/120.
[8] في (ن) تصحيفاً: (عن قريش).
[9] في غير (ن) هنا زيادة: (فقيل له في ذلك) ولا محل لها هنا.
[10] 1/208، والقصيدة مع الخبر فيه.
[11] في غير (ن): (أو الوليد).
[12] القصيدة في ديوان الفرزدق:2/178، وفي وفيات الأعيان:6/95.
[13] في (ن): (هذين خيار).
[14] في غير (ن): (قائلهم).
[15] في غير (ن): (والشيم).
[16] في (ن): (قدموا).
[17] في (ن): (من ميمون طلعته).
[18] في (ن): (فانفلقت عنها الغيابة والإطلاق والعدم).
[19] في (ن): (وايد).
[20] في (ن): (أوليته).
[21] حلية الأولياء:3/133.
[22] في غير (ن): (خفيان).
[23] في (ن) تصحيفاً: (اليماني).
[24] في (ن) تصحيفاً: (يا علي) وكذا الموضع بعده.
[25] في غير (ن): (ما الخوف).
[26] في (ن) تصحيفاً: (فاجأك).
[27] في (ن): (لما).
[28] في غير (ن): (محمليه).
[29] في غير (ن): (فقدوه).
[30] في (ن): (يشغل).
[31] في غير (ن): (جراب).
[32] في (ن): (حبونا).
[33] في غير (ن): (للسائل).
[34] في غير (ن): (تتعرض).
[35] في (ن): (داعية) وكذلك الموضع بعده.
[36] في غير (ن): (نادى).
[37] في غير (ن): (عن معصيته).
[38] في غير (ن): (فتلقاهم).
[39] في (ن): (فيقال).
[40] في (ن): (المذنب المؤمن).
[41] النجم الوهاج:6/479.
[42] إحياء علوم الدين:2/174.
[43] سقطت (قال) من (ن) واستدكت من الإحياء.
[44] في غير (ن): (كنت).
[45] في (ن): (أصحاب).
[46] في غير (ن): (قلت).
[47] تأخر في (ن) قوله: (وكفارة اليمين..) ودخل بين الكلام عن جزاء الصيد.
[48] في غير (ن): (بما).
[49] أخرجه مسلم برقم (279).
[50] في (ن): (اثنين).