غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

عبد الله بن حذافة

          652 # عبدُ الله بنُ حُذَافَةَ _بضمِّ المهملة، وفتح المعجمة، بعد الألف فاء_ بن قَيِس القُرشيُّ، السَّهْمِيُّ. يكنَّى أبا حذافة، وغلَّط ابنُ الأثير(1) ابن منده في تبديل قيس بسعدٍ، وأمُّه بنت حُرْثَانَ من بني الحارث. /
          أسلم قديماً، وصحب رسول الله صلعم، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثَّانية مع أخيه قيس بن حذافة، وهو أخو خُنيسِ بنِ حُذافة، وزوج حفصة بنت عمر قبل النَّبيِّ صلعم. قال أبو سعيد الخدريِّ: إنَّ عبد الله شهد بدراً، ولم يصحَّ، شهد له رسول الله صلعم أنَّه ابن حذافة، قال أنس بن مالك: خرج رسول الله صلعم حين زاغت(2) الشَّمس، فصلَّى الظُّهر، فلمَّا سلَّم قام على المنبر، فذكر السَّاعة، وذكر أن بين يديها أموراً عظاماً، ثمَّ قال: «من أحبَّ أن يسأل شيئاً فليسأل عنه، فوالله لا تسألوني عن شيء إلَّا وأخبرتكم ما دمت في مقامي هذا»، فسأله عبد الله، فقال: من أبي؟ قال: «أبوك حذافة». فقالت أمُّه: ما رأيت اليوم أَعقَّ بوالدته منك، إنَّما(3) خفتَ أن تكون أمُّك قارفَتْ ما كانت نساء الكفار تُقارف! فقال: والله لو ألحقني رسول الله صلعم بعبد أسود للحقت به(4) . قال الهرويُّ: وكان عبد الله متَّهم(5) في أبيه حذافة، فبرَّأه رسول الله صلعم من تلك.
          وهو الذي أمره رسول الله صلعم أن ينادي في أهل منى: إنَّها أيَّام أكل وشرب، فلا صيام فيها.
          وأرسله رسول الله صلعم بكتابه إلى كسرى إِبَرْوِيْزَ _بكسر الهمزة، وفتح الباء بعد الواو تحتانيَّة(6) مثنَّاة، آخرها زاي، وقد تقرأ من غير همزة في الأوَّل_ يدعوه إلى الإسلام، فمزَّق كتاب رسول الله صلعم فدعا عليه، وقال: «اللهمَّ مزِّق ملكه». فنزل عليه ابنه شِيْرَوَيْه ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جُمادى سنة سبع، فقتله. وشِيْرَوَيْه: بكسر المعجمة، بعدها(7) تحتيَّة مثنَّاة، وفتح الراء، بعدها مثنَّاة أخرى تحتيَّة، آخرها هاء، وقصة ذلك: أنَّه لمَّا مزَّق الكتاب، كتب كتاباً إلى بَاذَانَ _بموحَّدة ومعجمة بين ألفين، آخرها نون، وهو حاكم اليمن من جهة كسرى_ وفيه: إنِّي أسمع رجلاً خرج من بلاد تهامة يدَّعي النُّبوَّة، فابعث إليه أحداً ليسمع كلامه، ومره أن يرجع إلى دين قومه، فإن أبى فابعث برأسه إليَّ. فلمَّا وصل كتاب كسرى إلى باذان، بعث رجلين إلى المدينة، وقالا للنَّبيِّ صلعم: إنَّ إبَرْويزَ بعث إلى باذان، وأخبراه(8) الخبر. فقال: اصبرا إلى غد(9) . وذلك بعد أن أنزلهما، وأمرهما بالمقام، ثمَّ أرسل إليهما ذات غدوة أن انطلقا إلى باذان، وأعلماه أنَّ ربِّي قد قتل كسرى في هذه اللَّيلة. فانطلقا حتَّى قدما على باذان، فأخبراه بذلك، فقال: إن يكن الأمر كما قال فوالله إنَّ الرَّجل لنبيٌّ، وسيأتي الخبر بذلك / [إلى يوم كذا] .
          فأتاه الخبر كذلك، فبعث باذانُ بإسلامه، وإسلام من معه إلى رسول الله صلعم.
          قال ابن سيِّد النَّاس(10) : ويقال: إنَّ الخبر أتاه وهو مريض، فاجتمعت إليه أَسَاوِرَتُه، فقالوا: من تؤمِّر علينا(11) ؟ فقال لهم: مَلِكٌ مُقْبِل، وملك مُدْبِر، فاتَّبِعوا هذا الرَّجل، وادخلوا في دينه، [وأَسْلِموا] . ومات باذان، وبعث رؤوسُهم إلى رسول الله صلعم وفدَهم يعرِّفونه بالإسلام. قلت: الصَّحيح أنَّه أسلم، وعاش بعد ذلك، كما قال ابن الأثير(12) : إنَّ باذانَ أسلم في حياة النَّبيِّ صلعم وله أثر كبير في قتل الأسود العنسيِّ. قال: وقد أتينا على خبره في الكامل، وهو من أولاد الفرس الذين سيرَّهم كِسْرَى أَنُو شُرْوان مع سيف بن ذي يزن إلى اليمن لقتال الحبشة، فأقاموا باليمن، وكان بَاذَانُ بصنعاء انتهى.
          قال ابن سيِّد النَّاس في السيرة(13) : إنَّ النَّبيَّ صلعم بعث عبد الله بن حذافة بكتابه إلى كسرى منصرَفَه من الحديبية، فلمَّا مزَّق الكتاب، ودعا عليه صلعم قال أبو هريرة وغيره: إنَّ كسرى بينما هو في بيت كان يخلو فيه؛ إذا رجل قد خرج إليه في يده عصا، فقال: يا كسرى، إنَّ الله تعالى بعث رسولاً وأنزل عليه كتاباً، فأسلم تسلم، واتَّبعه يبق لك ملكك. فقال كسرى: أَخِّرْ عنِّي هذا أيَّاماً. فذهب عنه، ثمَّ دعا حُجَّابه وبوَّابيه فتواعدهم، وقال: من هذا الرَّجل الذي دخل عليَّ؟ قالوا: والله ما دخل عليك أحد، وما ضيَّعنا لك باباً. ومكث حتَّى كان العام المقبل أتاه، فقال له مثل ذلك، وقال: إن لا تسلم أكسر العصا على رأسك. قال: لا تفعل، (وأخِّر) ذلك أيَّاماً. ثمَّ جاء العام المقبل، ففعل مثل ذلك، وضرب بالعصا رأسه فكسرها، وخرج من عنده.
          ويقال: إنَّ ابنه قتله في تلك اللَّيلة، وأعلم الله تعالى بذلك نبيَّه، والسَّبب في قتله أنَّ شيرويه أحبَّ زوجة أبيه شِيْرِيْنَ(14) _بكسر المعجمة، وكسر الرَّاء بين التَّحتانيَّتين(15)_ فنزل عليه، فشقَّ بطنه ليتزوَّج بها، فلمَّا دفن قال شيرويه لشيرين: إنَّما قتلته لأتزوَّج بك، ولا بدَّ من ذلك. فقالت: حتَّى آتي قبر أبيك فأودِّعه. فدخلت القبر، وأخذت سيفاً، ووضعت مقبضه على جرح كسرى، ورأسه(16) على بطنها، واتَّكأت عليه، فمرق من ظهرها، وخرَّتْ على كسرى ميتة، وتولَّى شيرويه الملك، وكتب إلى باذان: إنِّي قتلت أبي؛ لأنَّه كان ظالماً، فلا تتعرَّض للرَّجل الذي كتب في حقِّه حتَّى ننظر في أمره. وكانت مدَّة ملكه ثمانية أشهر، [لكن] قال الكرمانيُّ(17) : إن برويز لمَّا استحسَّ بالقتل وضع سمًّا موجباً في علبة، وكتب عليها: الدَّواء النَّافع للجماع. وكان شيرويه / مولعاً بالجماع، وقصد في(18) ذلك إهلاكه، ووضع الحُقَّةَ في الخزانة، فلمَّا قتل برويز فتح شيرويه الخزانة، واستعرض الحوائج، وإذا بالحقَّة، فأخذها، ثمَّ تناول منها، فمات ساعته، وصار الملك إلى ابنه شهريار، ثمَّ إلى يزدجرد(19) ، ثمَّ انتزع الملك من أيديهم على يد عمر بن الخطَّاب، وانقرض مدَّة سعادتهم لمَّا بعث سعد بن أبي وقَّاص إلى العراق.
          قال ابن الأثير(20) : كان في عبد الله بن حذافة دعابة. قال الكرماني: إنَّه(21) الذي حَلَّ حزام دابة النَّبيِّ صلعم في بعض أسفاره حتَّى كاد يقع. قال ابن وهب: قلت للَّيث بن سعد: فعل ذلك ليضحكه؟ قال: نعم. وأَسَرَتْهُ الرُّوم في بعض غزواته على قيسارية، فقال له الطَّاغية: تنصَّر وإلا ألقيتك في البقرة(22) . لبقرة من نحاس، قال: ما أفعل. فدعا بالبقرة، فملئت زيتاً وأغليت، ودعا برجل من أسارى المسلمين، فعرض عليه النصرانيَّة(23) ، فأبى، فألقاه في البقرة، فإذا عظامه تلوح، وقال لعبد الله: تنصَّر، وإلَّا فعلت (بك) ما رأيت. قال: ما أفعل. فأمر به أن يلقى بالبقرة، فبكى، فقالوا: قد جزع. قال: ردُّوه. قال: لا ترى أنِّي بكيت جزعاً ممَّا تريد أن تصنع بي، ولكنِّي بكيت؛ حيث ليس لي إلَّا نفس واحدة يفعل بها هذا(24) في الله، كنت أحبُّ أن يكون لي من الأنفس(25) عدد كلِّ شعرة في جسدي، ثمَّ تسلَّط عليَّ، فتفعل بي هكذا. فأعجب منه، وأحبَّ أن يطلقه، فقال: قَبِّلْ راسي وأطلقك. فقال: ما أفعل. قال: تنصَّر وأزوِّجك ابنتي، وأقاسمك ملكي. قال: ما أفعل. قال: قَبِّل رأسي وأطلقك، وأطلق معك ثمانين من المسلمين. قال: أمَّا هذه فنعم. فقبَّل رأسه، فأطلقه، وأطلق معه ثمانين من المسلمين، فلمَّا قدموا على عمر بن الخطَّاب، قام إليه عمر فقبَّل رأسه، فكان أصحاب رسول الله صلعم يمازحون عبد الله، ويقولون: قبَّلت رأس عِلْجٍ. فيقول: أطلق الله بتلك القبلة ثمانين رجلاً من المسلمين.
          ثمَّ اعلم [أنِّي] إنَّما ذكرت عبد الله بن حذافة _وإن لم يكن البخاريُّ نقل عنه شيئاً_ لأنَّه ذكره في باب(26) المناولة، من كتاب العلم [خ¦64] مبهماً، حيث قال: بعث بكتابه رجلاً. وهذا الرَّجل هو عبد الله بن حذافة، وذكره البخاريُّ مصرَّحاً، في تفسير سورة النِّساء، في قوله تعالى: { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } [خ¦4584] .
          توفِّي بمصر في خلافة عثمان ☻.


[1] في أسد الغابة:3/213، وسقط من (ه) قوله: (يكنى) والمثبت من باقي النسخ.
[2] في (ن): (زاغ).
[3] في (ن): (أما).
[4] الحديث كاملاً في مصنف عبد الرزاق برقم (20796) باب أشراط الساعة، وصدر الحديث في البخاري برقم (540).
[5] في غير (ن): (يتهم).
[6] في غير (ن): (تحتية).
[7] في (ن) تصحيفاً: (بعد).
[8] في (ن): (وأخبره).
[9] في (ن) تصحيفاً: (عدد).
[10] عيون الأثر:2/327- 328.
[11] في غير (ن): (من تؤمن علينا).
[12] أسد الغابة:1/349.
[13] عيون الأثر:2/328.
[14] في (ن) تصحيفاً: (شرير) وكذا في الموضع بعده.
[15] في غير (ن): (التحتيتين).
[16] في (ن) تصحيفاً: (ورأسها).
[17] شرح البخاري:2/22.
[18] في غير (ن): (من).
[19] في (ن) تصحيفاً: (يزدجر).
[20] أسد الغابة:3/214، وقصة أَسْرِه كذلك فيه.
[21] في غير (ن): (هو).
[22] في (ن): (النقرة) والمثبت موافق لابن الأثير.
[23] في غير (ن): (التنصر).
[24] في (ن): (بهذا).
[25] في غير (ن): (النفس).
[26] برقم (64).