غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

عبد الله بن جعفر بن أبي طالب

          646 # عبدُ الله بنُ جَعْفَرِ بنِ أبي طالب، واسم أبي طالب عبدُ مَنَاف بنِ عبد المطَّلب الهاشميُّ المدنيُّ، الصَّحابيُّ ابن الصَّحابيِّ، وأمُّه أسماءُ بنتُ عُمَيْسٍ الخَثْعَمِيَّةُ.
          روى عن رسول الله صلعم خمسة وعشرين حديثاً، قال ابن حجر: للبخاريِّ منها حديثان.
          وروى عن عمِّه عليِّ بن أبي طالب.
          روى عنه عروة بن الزُّبير، وسعد بن إبراهيم.
          نقل عنه البخاريُّ بالواسطة، في الأطعمة(1) ، والأنبياء(2) .
          ولد بأرض الحبشة، وكان عند وفاته صلعم ابن عشر سنين، وكان أبواه هاجرا إلى الحبشة، فولد هناك، وهو أوَّل مولود (ولد) في الإسلام بأرض الحبشة، وقدم مع أبيه المدينة، وهو أخو محمَّد بن أبي بكر الصِّدِّيق، ويحيى بن عليِّ بن أبي طالب لأمِّهما.
          وروى خارج الصَّحيح عن أمِّه أسماء، وروى عنه بنوه: إسماعيل، وإسحاق، ومعاوية، ومحمَّد بن عليِّ بن الحسين، والقاسم بن محمَّد، والشَّعبيُّ وغيرهم.
          قال عبد الله: دخل رسول الله صلعم حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلمَّا رأى النَّبيَّ صلعم جَرْجَرَ، وذرفت(3) عيناه، فأتاه صلعم فمسح رأسه إلى سنامه وذفراه فسكن، فقال: «من ربُّ هذا الجمل»؟ فجاء فتى من الأنصار، فقال: هو لي يا رسول الله. قال: «أفلا تتَّقي الله في هذه البهيمة؟ ملَّكك الله إيَّاها، قد شكا أنَّك تجيعه وتُدئبه».
          وكان عبد الله كريماً، جواداً، حليماً، يسمَّى بحر الجود. روي أنَّ عبد الله أسلف الزُّبير ألف ألف درهم، فلمَّا قتل الزُّبير قال ابنه عبد الله لعبد الله بن جعفر: إنِّي وجدت في كتب أبي أنَّ له عليك(4) ألف ألف درهم. فقال: هو صادق اقبضها إذا شئت. ثمَّ لقيه، فقال: يا أبا جعفر، وهِمْتُ، المال [لك] عليه. / فقال: هو له. (قال): لا أريد ذلك. قال: فإن شئت فهو له، وإن كرهت فلك فيه نَظِرَة ما شئت، وإن لم ترد ذلك فبعني من ماله ما شئت. قال: أبيعك، ولكنِّي أُقَوِّم. فقوَّم الأموال، ثمَّ أتاه، فقال: أحبُّ أن لا يحضرني وإيَّاك أحد. قال: فانطلق، فمضى معه، فأعطاه خراباً لا عمارة فيه، وقوَّمه عليه؛ حتَّى إذا فرغ، قال عبد الله بن جعفر لغلامه: ألق لي في هذا الموضع مصلًّى. فألقى له في أغلظ موضع، فصلَّى وسجد، فأطال السُّجود يدعو، فلمَّا قضى ما أراد من الدُّعاء، قال لغلامه: احفر موضع سجودي. فإذا عين قد أنبطها الله، فقال له ابن الزبير: أقلني، قال: أمَّا دعائي (فقد) أجابه الله إيَّاي، فلا أُقيلك. فصار ما أخذ [منه] أعمر مما في يد ابن الزُّبير.
          وله حكايات عجيبة في الكرم والحلم(5) ؛ (حتَّى) حكى القشيريُّ في رسالته(6) أنَّ شخصاً طاف بقبر النَّبيِّ صلعم أيَّام الموسم، و [كان] على وسطه هِمْيان فيه ألف دينار، ونسي في رحله، فبينما هو طائف فَقَدَ الهميان فلم يجده، فالتفت وإذا بعبد الله بن جعفر بجانبه، فأخذ الرَّجل على يد عبد الله، وقال: أنت سرقت هِمْيَاني، فقال: وكم مبلغ مالك؟ قال: كذا وكذا. قال: فاسكت وامض معي إلى البيت حتَّى أسلِّمك المال. فانطلق معه، فوزن له، فرجع الرَّجل إلى رحله، وإذا بالهِمْيَانِ في رحله، وكان قد نسي، فاستحى ورجع إلى عبد الله بالمبلغ، فقال: مالك؟ قال: إنِّي أستغفر الله، اتَّهمتك بما أنت بريء منه، قد كنت نسيت المال ووجدته، وهذا مالك. فقال: معاذ الله أن نرجع في شيء قد خرجنا عنه، فاذهب وتصرَّف فيه بما شئت، ولا نخيِّب ظنَّك.
          حكى الغزاليُّ في نصيحة الملوك(7) : أنَّه تفاخر عبدٌ لبني هاشم، وعبدٌ لبني أميَّة، وقال كل واحد: مولاي أكرم من مواليك. فقالا(8) : يمضي كلٌّ منا إلى مواليه، ونجرِّب ذلك. فمضى مولى بني أميَّة إلى بعض مواليه، وشكا ضائقة، فأعطاه عشرة آلاف درهم، ومضى إلى آخَر وكذلك إلى عشرة منهم، فأُعطي مئة ألف، وذهب مولى بني هاشم إلى الحسين بن عليٍّ، وشكا فقره، فأعطاه مئة ألف، وكذلك عبد الله بن جعفر، وكذلك عبد الله بن ربيعة، فاجتمع عنده ثلاث مئة ألف من ثلاثة أنفس، فلمَّا اجتمعا قال الهاشميُّ للأمويِّ: إنَّما تعلم مواليك الكرم من مواليَّ. قال: ولكن عُد بنا حتَّى نجرِّب الأمر، فمضيا وأخبرا ساداتهما أنَّ الله قد قضى وطرهما من حيث لا نحتسب، ولم يبق لنا حاجة بالمال. فقال بنو أميَّة: ضع المال. وأخذوا ما دفعوا، وأمَّا بنو هاشم، فقالوا: لا نأخذ شيئاً قد وهبناه، ولا نعود في هبتنا، فإن استغنيت فتصدَّق بذلك.
          وذكر في الإحياء(9) : أنَّ الحسن والحسين / ابنَي(10) عليٍّ، وعبد الله بن جعفر خرجوا حجَّاجاً، ففاتهم أثقالهم، فجاعوا وعطشوا، فمرُّوا بعجوز في خباء، فقالوا: هل من شراب؟ قالت: نعم. فأناخوا إليها، وليس لها إلَّا شويهة في الخيمة، فقالت: احلبوها وامتذقوا لبنها. ففعلوا ذلك، فقالوا لها: هل من طعام؟ فقالت: لا، إلَّا هذه الشَّاة، فليذبحها أحدكم حتَّى أهيِّئ لكم ما تأكلون. فذبحوها، وهيَّأت لهم طعاماً، فأكلوا، وأقاموا حتَّى برد الوقت، فلمَّا ارتحلوا قالوا: نحن نفر من قريش، نريد هذا الوجه، فإذا رجعنا سالمين فانزلي بنا، فإنَّا صانعون معك خيراً. ثمَّ ارتحلوا، وورد زوجها، فأخبرته بالخبر، فغضب الرَّجل، وقال: ويلك، تذبحين شاتي لقوم لا نعرفهم، ثمَّ يقولون: نفر من قريش! ثمَّ بعد مدَّة ألجأتها الحاجة إلى دخول المدينة، فدخلت وزوجها ينقلان البعر، ويتقوَّتان بثمنه، فمرَّت العجوز في بعض سكك المدينة، فإذا الحسن بن عليٍّ جالس على باب داره، فعرفها وهي له منكرة، فدعا غلام الحسن العجوز، فقال الحسن: أتعرفينني؟ قالت: لا. قال: أنا ضيفك في يوم كذا وكذا. قالت: بأبي أنت وأمِّي أنت هو؟ فأمر لها بألف شاة، وألف درهم، وبعث معها غلامه إلى الحسين وعرَّفه، فأعطاها مثل ذلك، ثمَّ بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر، فقال: بكم وصلك الحسن والحسين؟ قالت: بألفي شاة، وألفي درهم، فأعطاها مثلهما، وقال: والله لو بدأت بي لأتعبتهما. فرجعت العجوز إلى زوجها بأربعة آلاف درهم، وأربعة آلاف شاة.
          قال ابن الأثير(11) : وأخباره في جوده وحلمه لا تحصى، ومات بالمدينة عام الجُحَاف، وأمير المدينة أبان بن عثمان لعبد الملك بن مروان، فحضر غسله وكفنه، والولائد خلف سريره قد شقَّقن الجيوب، والنَّاس يزدحمون على سريره، وأبان بن عثمان قد حمل السَّرير بين العمودين(12) ، فما فارقه حتَّى وضعه بالبقيع، وإنَّ دموعه لتسيل على خدَّيه، ويقول: كنتَ والله خيراً لا شرَّ فيك، وكنت والله واصلاً شريفاً، ورئي مكتوباً بأعلى(13) قبره _من البحر الطَّويل_:
مقيمٌ إلى أن يبعثَ الله خَلْقَهُ                     لقاؤك لا يُرْجَى وأنتَ قريبُ
تزيد بِلىً في كلِّ يوم وليلةٍ                     وتنسَى كما تَبْلَى وأنتَ حبيبُ
          وإنَّما سمِّي عام الجُحَاف؛ لأنَّه جاء سيل عظيم ببطن مكَّة جحَفَ الحجَّاج(14) ، وذهب بالإبل عليها أحمالها، وصلَّى على عبد الله أبانُ بنُ عثمانَ، وقيل: توفِّي سنة أربع، أو خمس وثمانين، قال ابن الأثير: والأوَّل أكثر. قال المدائنيُّ: كان عمره تسعين سنة، وقيل: إحدى أو اثنتان وتسعين. وكان الجُحاف سنة ثمانين من الهجرة.


[1] برقم (5440).
[2] برقم (3432).
[3] في (ن) تصحيفاً: (وزرفت).
[4] في غير (ن): (لك عليه) وهو تصحيف.
[5] في غير (ن): (والعلم).
[6] الرسالة القشيرية:2/384، ولكن القصة فيها لجعفر الصادق.
[7] التبر المسبوك في نصيحة الملوك: ص101.
[8] في غير (ن): (فقال).
[9] إحياء علوم الدين:4/455.
[10] في (ن) تصحيفاً: (ابنا).
[11] أسد الغابة:3/201، والشعر فيه مع أخباره.
[12] في (ن) تصحيفاً: (العمود).
[13] في غير (ن): (على).
[14] في غير (ن): (الحاج).