غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

عباس بن عبد المطلب

          633 # عَبَّاسُ بنُ عبد المُطَّلب بنِ هاشم بنِ عبدِ مَنَافٍ الصَّحابيُّ، عمُّ النبي صلعم، وأمُّه نُتيلة(1) بنت خَبَّاب بن كُليب، وهي أوَّل عربيَّة كَسَتِ البيتَ الحرير والدِّيباج وأصناف الكسوة، وسببه أن العباَّس ضاع وهو صغير، فنذرت أمُّه إن وجدته أن تكسو البيت، فوجدته، ففعلت. وكان أسنَّ من رسول الله صلعم بسنتين. قيل: ثلاث. يكنَّى أبا الفضل.
          وكان رئيساً في قريش في الجاهليَّة، وإليه كانت عمارة المسجد الحرام، والسِّقاية في الجاهليَّة، أمَّا عمارة المسجد؛ فإنَّه كان لا يدع أحداً يسبُّ فيه، ولا يقول فيه هُجْرَاً(2) ، ولا يستطيعون الامتناع؛ لأنَّ ملأ قريش كانوا قد اجتمعوا، وتعاقدوا على ذلك، فكانوا له أعواناً عليه، وشهد مع رسول الله صلعم بيعة العقبة، لمَّا بايعه الأنصار؛ ليشدِّد له العقد، وكان حينئذ مشركاً، وكان ممَّن خرج مع المشركين إلى بدر مكرهاً، وأسر يومئذ فيمن أسر، وكان قد شُدَّ وثاقه، فسهر النَّبيُّ صلعم تلك اللَّيلة ولم ينم، فقال له بعض أصحابه: ما يسهرك يا نبيَّ الله؟ فقال: أسهر لأنين العبَّاس. فقام رجل من القوم فأرخى وثاقه، فقال رسول الله صلعم: «مالي لا أسمع أنين العبَّاس»؟ فقال الرَّجل: أنا أرخيت من وثاقه. فقال صلعم: «فافعل ذلك بالأسرى كلِّهم». وفدى يوم بدر نفسه، وابن أخيه عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، وأسلم عقب ذلك.
          قيل: لمَّا طلب منه صلعم الفداء وأكثر، فقال: يا محمَّد، لم يبق معي شيء، أتريد أن يتكفَّف النَّاس عمَّك؟ فقال: «كلَّا، إنَّ مع أمِّ الفضل ما دفعت إليها وقت خروجك للحرب». فقال: من أخبرك بذلك؟ فإنَّه لم يكن عندنا ثالث. /
           قال: «أخبرني العليم(3) الخبير». وكان لمَّا أراد الخروج قد قال لأمِّ الفضل: ها أنا خارج في هذا الوجه، ولا أدري لمن الدائرة، فإن لم أرجع كفاك والفضل هذا. ودفع إليها صرَّة فيها عين، وكان ذلك سبب إسلامه. قلت: فهذا فما قبله يدلُّ على أنَّ العبَّاس حضر بدراً وهو كافر، ثمَّ أسلم؛ ولهذا عدَّ ابنُ سيِّد النَّاس وغيره العبَّاسَ فيمن أسلم من أسرى بدر، لكن ذكر ابن سيِّد(4) النَّاس في السِّيرة، ومحيي السُّنَّة(5) في تفسيره نقلاً عن أبي رافع مولى رسول الله صلعم، قال: كنت غلاماً للعبَّاس بن عبد المطَّلب، وكان الإسلام قد دَخَلَنا أهلَ البيت، فأسلم العبَّاس، وأمُّ الفضل، وأسلمت أنا، وكان العبَّاس يهاب قومه، ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال، فلمَّا جاء الخبر عن مصاب قريش، وساق الخبر عن مهلك أبي لهب إلى آخره. فهذا صريح أنَّ العبَّاس كان مسلماً لمَّا حضر بدراً، وقد يؤخذ من قوله صلعم يوم بدر: «من لقي العبَّاس فلا يقتله، فإنَّه أخرج مكرهاً». [أنه كان مسلماً] ، وإن كان يمكن أنَّه كان كافراً، وما أراد الخروج لقتال ابن أخيه. فتأمَّل.
          قال ابن الأثير، وقيل: إنَّه أسلم قبل الهجرة، وكان يكتم إسلامه، وكان بمكة يكتب إلى رسول الله صلعم أخبار المشركين، وكان من بمكَّة [من المسلمين] يتقوَّون به، وكان عوناً على إسلامهم، وأراد الهجرة إلى رسول الله صلعم، فقال: «مقامك بمكَّة خير». فلذلك قال صلعم يوم بدر: «من لقي العبَّاس فلا يقتله؛ فإنَّه أخرج مكرهاً». وقصَّة الحجَّاج (بن عِلاَط) تشهد بذلك، قاله ابن الأثير(6) .
          قلت: وقصَّة الحجَّاج أنَّه خرج في ركب من قومه إلى مكَّة، فلمَّا جنَّ اللَّيل، وهو في واد وحش مخوف، قال له أصحابه: يا أبا كلاب، خذ لنفسك وأصحابك أماناً. فقام الحجَّاج ليطوف حولهم يكلؤهم، ويقول _من البحر الرَّجز_:
أُعِيْذُ نَفْسِيْ وأُعِيْذُ صَحْبِيْ
من كلِّ جِنِّيٍّ بهذا النَّقْبِ
حتى أَؤُوْبَ سَالِماً ورَكْبِيْ
          فسمع قائلاً: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } [الرحمن:33] فلمَّا قدم مكَّة خبَّر بذلك في نادي قريش، فقالوا: صبأت يا أبا كِلاَب، إنَّ هذا ممَّا يزعم محمَّد أنَّه أُنزل عليه. فقال: والله لقد سمعت(7) ، وسمع هؤلاء معي، ثمَّ أسلم. ولمَّا افتتح رسول الله صلعم / خيبر، قال الحجَّاج: يا رسول الله، إنَّ لي بمكَّة مالاً، وإنَّ لي بها أهلاً، وإنِّي أريد أن آتيهم، فأنا في حِلٍّ إن أنا نلت منك أو قلت شيئاً؟ فإنَّ لي عند صاحبتي أمِّ شيبة بنت أبي طلحة مالاً، وأنا أتخوَّف إن علموا بإسلامي أن يذهبوا بمالي(8) ، فائذن لي باللُّحوق به؛ لعلِّي أن أتخلَّصه(9) . فقال رسول الله صلعم: «قد فعلت». فخرج الحجَّاج، فلمَّا انتهى إلى ثنية البيضاء؛ إذا بها نفر من قريش يتجسَّسون الأخبار، فقالوا: ما الخبر؟ قال: هزم محمَّد أقبح هزيمة، وقتل أصحابه، وأخذ محمَّد أسيراً. فقالوا: لا نقتله حتَّى نبعث به إلى أهل مكَّة، فيقتل بين أظهرهم. فلمَّا وردوا مكَّة صاحوا بها، وقالوا: هذا الحجَّاج(10) قد جاءكم بالخبر بما قال. وقال: أعينوني على جمع مالي، فإنِّي أريد أن ألحق بخيبر، فأشتري ما أصيب من محمَّد قبل أن تأتيهم التُّجَّار. فجمعوا ماله أحسن جمع، وهكذا قال لصاحبته، فدفعته(11) ماله أجمع، فلمَّا استفاض ذلك بمكَّة أتاه العبَّاس، فقام إلى جنبه منكسراً مهموماً، فقال: يا حجَّاج، ما الخبر؟ قال: فقلت: استأخر عنِّي ساعة حتَّى تلقاني خالياً، فذهب ثمَّ أتى، فقال: يا حجَّاج، ما عندك من الخبر؟ فقلت: الذي يسرُّك، والله إنَّ ابن أخيك قد فتح الله عليه خيبر، وقتل من قتل من أهلها، وصارت أموالها له ولأصحابه، وتركته عروساً على ابنة ملكهم، ولقد أسلمتُ، وما جئت إلَّا لأخذ مالي، ثم ألحق برسول الله صلعم، فاكتم عليَّ الخبر ثلاثة أيام، (فإنِّي) أخشى الطَّلب. قال: وانطلقت، فلمَّا كان اليوم الثَّالث، لبس العبَّاس حُلَّة وتخلَّق، وأخذ عصاه، وذهب إلى المسجد، واستلم الرُّكن، فنظر إليه رجال من قريش، فقالوا: يا أبا الفضل، هذا والله التَّجلُّد على حَرِّ المصيبة. فقال: كلَّا، والذي حلفتم به، ولكنَّه قد فتح محمَّد خيبر، وصارت له ولأصحابه، ونزل عروساً على ابنة ملكهم. فقال: من أنبأك بهذا الخبر؟ قال الحجَّاج بن علاط، ولقد أسلم، وتابع محمَّداً على دينه، وما قدم إلَّا ليأخذ ماله، [ويلحق به] . فقالوا: أي(12) عباد الله، خدعنا عدوُّ الله. فلم يلبثوا إلى أن جاء الخبر. انتهت قصَّة الحجَّاج(13) ، ولكنَّها لا تدلُّ على أنَّ العبَّاس / كان مسلماً قبل بدر، فضلاً قبل الهجرة _كما زعم ابن الأثير_ فإنَّ خيبر فتحت سنة سبع، وبدر السَّنة الثَّانية من الهجرة، فتأمَّل. نعم قال ابن الأثير: قال النَّبيُّ صلعم للعبَّاس: «أنت آخر المهاجرين، كما أنَّني آخر الأنبياء». لكن لم يذكر(14) متى قال له ذلك، أوَقت هجرته صلعم أو بعد ذلك مراسلة؟ وإن كان الحمل على المشافهة أولى؛ لأنَّه حقيقة دون المراسلة. فتأمَّل، نعم صرح بذلك بعده، فيما روى سهل بن سعد السَّاعدي قال: استأذن العبَّاس النَّبيَّ صلعم في الهجرة، فقال له: «يا عمُّ، أقم مكانك الذي أنت به، فإنَّ الله تعالى يختم بك الهجرة، كما ختم بي(15) النُّبوَّة». ثمَّ هاجر العبَّاس زمن الفتح، وشهد معه الفتح، وانقطعت الهجرة.
          قلت: والظَّاهر أنَّه ما أراد الهجرة معه إلَّا لإسلامه، وإن أمكن أن يكون لغير ذلك، كما شهد العقبة معه وهو كافر. فتأمَّل، وشهد العبَّاس حُنيناً وثبت، ولم ينهزم(16) ، وكان صلعم يعظِّمه ويكرمه بعد إسلامه، وكان وصولاً لأرحام قريش، محسناً إليهم، ذا رأي سديد وعقل غزير، فقال صلعم: «هذا العبَّاس أجود قريش كفًّا، وأوصلها رحماً، وهذا بقيَّة آبائي».
          ودخل العبَّاس على النَّبيِّ صلعم مغضباً، فقال: «ما أغضبك»؟ فقال: يا رسول الله، ما لنا ولقريش؟ إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة، وإذا لقونا لقونا بغير ذلك. فغضب رسول الله صلعم حتَّى احمرَّ وجهه، ثمَّ قال: «والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتَّى يحبَّكم لله ولرسوله». ثمَّ قال: «أيُّها النَّاس من آذى عمِّي فقد آذاني، فإنَّما عمُّ الرَّجل صنو أبيه».
          عن عبد الله ☻ قال: قال رسول الله صلعم: «إنَّ الله قد اتَّخذني خليلاً كما اتَّخذ إبراهيم خليلاً، ومنزلي تجاه منزل إبراهيم في الجنَّة، ومنزل العبَّاس بيننا، مؤمن بين خليلين».
          روى عن رسول الله صلعم خمسة وثلاثين حديثاً، منها أنَّه قال: أتيته صلعم فقلت: علِّمني يا رسول الله شيئاً أدعو به، فقال: «سل الله العافية». ثمَّ أتيته، فقلت: يا رسول الله علِّمني شيئاً أدعو به. فقال: «يا عبَّاس، يا عمَّ رسول الله، سل الله العافية في الدُّنيا والآخرة».
          قال الرُّشاطيُّ: يروى أنَّ العبَّاس لم يمرَّ بعمر ولا بعثمان وهما راكبان إلَّا نزلا له؛ حتَّى يجوز العبَّاس إجلالاً له، واستسقى عمر بالعبَّاس عام الرَّمادة لمَّا اشتدَّ القحط، فسقاهم الله تعالى به، وأخصبت الأرض، فقال عمر: هذا والله الوسيلة إلى الله تعالى، والمكان منه، ولمَّا سقي النَّاس طفقوا يتمسَّحون / بالعبَّاس، ويقولون [له] : هنيئاً لك ساقي الحرمين. وقال حسَّان بن ثابت _من (البحر) الكامل(17)_:
سَألَ الإمامُ وقد تتابعَ جَدْبُنَا                     فَسُقِي الغَمامَ بغُرَّةِ العَبَّاسِ
عمِّ النبيِّ وصِنْو والدهِ الذي                     ورثَ النَّبيَّ بذاك دون النَّاسِ
أحيا الإلهُ به البلادَ فأصبحتْ                     مُخْضَرَّةَ الأجنابِ بعد الياسِ
          وسمِّي عام الرَّمادة؛ لأنَّهم لمَّا أجدبوا صارت ألوانهم كلون الرَّماد، وسبب استسقاء عمر بالعبَّاس أنَّه سأل في ذلك كعب الأحبار، فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل ذلك استسقوا بعصبة الأنبياء. فصعد عمر المنبر ومعه العبَّاس، فقال: اللهمَّ إنَّا توجَّهنا إليك بعمِّ نبيِّنا وصفوته، فاسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين. ثمَّ قال: يا أبا الفضل، قم فادع، فقام العبَّاس، فحمد الله، فأثنى عليه، ثمَّ قال: اللهم إنَّك لا تنزل بلاء إلَّا بذنب، ولا تكشفه إلَّا بتوبة، وتوجَّهوا بي إليك، اللهم فاسقنا الغيث، اللهم شفِّعنا في أنفسنا وأهلينا(18) ، اللهم [إنَّا] شفعنا عمَّن لا ينطق من بهائمنا وأنعامنا، اللهم لا نرجو إلَّا إيَّاك، اللهم إليك نشكوا جُوْعَ كلِّ جائع، وعُرْيَ كلِّ عار، وخوف كلِّ خائف، وضعف كلِّ ضعيف. في دعاء كثير، فسقوا. قلت: وإيَّاك أن تظنَّ أنَّ هذا كلَّه إلحاح، والإلحاح والالحاف في الدُّعاء مكروه؛ لأنَّ الله تعالى مدح قوماً لترك الإلحاف(19) في السُّؤال، [حيث] قال(20) : { لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } [البقرة:273] فإنَّ ذلك في السُّؤال عن الخلق لا عن الخالق، وإن كان لفظ النَّاس مفهوم لقب لا يعتدُّ به؛ لأنَّ سياق الكلام مدح، فيربط بما ورد في اللَّفظ، ويدلُّ لذلك ما روى محمَّد بن حاتم قال: قلت لأبي بكر الورَّاق: علِّمني شيئاً يقرِّبني إلى الله، ويقرِّبني من النَّاس. فقال: أمَّا الذي يقرِّبك من الله فمسألته، وأمَّا الذي يقرِّبك من النَّاس فترك مسألتهم، ثمَّ روي عن أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: «من لم يسأل الله يغضب عليه»(21) . ثمَّ أنشد _من البحر الكامل أيضاً_:
اللَّهُ يغضبُ إنْ تركتَ سؤالَه                     وبُنَيُّ آدمَ حينَ يُسأل يَغضبُ
          وكان الصَّحابة يعرفون للعبَّاس فضله، ويقدِّمونه ويشاورونه، (ويأخذون برأيه، وكفاه شرفاً وفضلاً؛ أنَّه كان يعزَّى بالنَّبيِّ صلعم لمَّا مات،) ولم يخلِّف من عصباته أقرب منه، وللعبَّاس عشرة أولاد ذكور سوى الإناث: الفَضْلُ، وعبد الله، وعبيد الله، وقُثَمُ، وعبد الرَّحمن، ومَعْبَدُ، والحارث، وكَبير، وعَون(22) ، وتَمَّام، وكان أصغر ولد أبيه، وعمي العباس في آخر عمره.
          روى عن رسول الله صلعم خمسة وثلاثين حديثاً. قال ابن حجر(23) : للبخاريِّ منها خمسة أحاديث. قال الكرمانيُّ: حديثان. [قال:] وشهد حُنيناً مع / النَّبيِّ صلعم، وثبت معه حين انهزم النَّاس، فأمره عليه (الصَّلاة و) السَّلام أن ينادي في النَّاس بالرُّجوع، فنادى، وكان صَيِّتاً، فأقبلوا وحملوا على المشركين، فانهزموا، انتهى. قيل: كان العبَّاس لمَّا يصيح تنشقُّ مرارة الذِّئاب من هوله، وتضع الحامل ما في بطنها لذلك.
          [قال ابن خلِّكان في ترجمة عليِّ بن عبد الله بن العبَّاس(24) : إنَّ العبَّاس كان عظيم الصَّوت، وجاءتهم مرَّة غارة وقت الصَّباح، فصاح بأعلى صوته: واصباحاه. فلم تسمعه حامل في الحيِّ إلَّا وضعت، وكان العبَّاس يقف على سلع، وهو جبل في المدينة، وينادي غلمانه بالغابة في آخر اللَّيل(25) ، فيسمعهم صوته، وبين الغابة وسلع ثمانية أميال] .
          روى عنه: نافع بن جُبير، وعبد الله بن الحارث بن نوفل.
          نقل عنه البخاريُّ بالواسطة، في كتاب الوضوء، في باب الغسل والوضوء من المِخْضَب [خ¦198] أوَّلاً، (ثمَّ) في كتاب الأدب، وقصَّة أبي طالب [خ¦6208] .
          توفِّي بالمدينة يوم الجمعة، لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب، وقيل: من رمضان. سنة اثنتين(26) وثلاثين، قبل قتل عثمان بسنتين، ودفن بالبقيع، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وكان طويلاً، جميلاً، أبيض، ذا ضفيرتين، ولمَّا أسر يوم بدر لم يجد قميصاً يصلح له إلَّا قميص عبد الله بن أِّبي سلول، كبير المناقفين، فألبسوه إيَّاه، ولهذا لمَّا مات عبد الله بن أُبي أتى رسول الله صلعم ابنه، وسأله قميصه؛ ليكفِّن فيه أباه، فأعطاه رسول الله صلعم (قميصه)، فكفَّنه فيه، وقيل: إنَّما أعطاه لأنَّه ما سئل عن شيء قطُّ، فقال: لا. وقيل: بل إنَّما أعطاه إكراماً لابنه، فإنَّه كان من خيار المسلمين، وتطييباً لخاطر قومه، فأسلم بسببه جمع كثير من قومه.
          وأعتق العبَّاس سبعين عبداً، وكان ذا عبيد كثيرة، ولهذا قال عمر حين طُعن لعبد الله بن العبَّاس: إنَّ أباك يحبُّ أن تكثر العُلُوجُ بالمدينة. فقال: ألا تقتلهم [يا أمير المؤمنين] ؟ فقال: بعد أن قالوا ما قلتم.
          خاتمة:
          لمَّا ذكرنا أنَّ أوَّل عربيَّة كست البيت أمُّ العبَّاس أردنا أن نذكر أوَّل من كساه على الإطلاق، فنقول: قال ابن الجوزيِّ في مثير الغرام السَّاكن إلى أشرف الأماكن(27) : عن أبي هريرة عن النَّبيِّ صلعم أنَّه نهى عن سبِّ أسعد الحِمْيريِّ، وهو تُبَّع، وكان أوَّل من كسا البيت. قال جماعة من أهل العلم: كان قد رأى في المنام أن اكسها، فكساها الوصائل: ثياب حِبَرَةٍ من عَصَبِ اليمن، فلمَّا نشأ أبو زَمْعَةَ بن المغيرة قال: أنا أكسو الكعبة وحدي سنة، وجميع قريش سنة. فكان يأتي بالحِبَرَةِ الجيِّدة، فيكسوها إلى أن مات، فسمَّته قريش العدل؛ لأنَّه عدل فعله بفعل قريش كلِّها.
          وأوَّل عربيَّة كست البيت (الحرير) والدِّيباج نَتِيْلَةُ أمُّ العبَّاس، وعن إسماعيل بن إبراهيم قال: كُسي البيت في الجاهليَّة الأنطاع، ثمَّ كساه الحجَّاج الدِّيباج. ويقال: أوَّل من كساه الدِّيباج يزيد بن معاوية. ويقال: ابن الزُّبير. ويقال: عبد الملك. وأوَّل من خَلَّق جوف الكعبة ابن الزُّبير، وروى ابن نَجيح أنَّ عمر بن الخطَّاب كسا الكعبة القَبَاطيَّ من بيت المال، وأجرى لها معاوية وظيفة / الطِّيب كلَّ صلاة، وبعث لها عبيداً(28) يخدمونها.
          قال أبو الوليد الأزرقيُّ: حدَّثني جدِّي قال: كانت الكعبة تُكْسَى في كلِّ سنة كسوتين، كسوة ديباج، وكسوة قباطيٍّ؛ فأمَّا الدِّيباج، فتكساه يوم التَّروية، فيعلَّق القميص، ويدلَّى، ولا يخاط، فإذا صدر النَّاس من منى خِيْطَ القميص، وترك الإزار حتَّى يذهب الحاجُّ لئلَّا يخرقوه، فإذا كان عاشوراء علِّق الإزار، فوصل القميصَ(29) ، فلا تزال هذه الكسوة كسوة الدِّيباج عليها إلى يوم سبع وعشرين من رمضان، فتكسَى القَبَاطيَّ للفطر، فلمَّا كانت خلافة المأمون رفع إليه أنَّ الدِّيباج يَبْلَى ويتخرَّق قبل أن يبلغ عيد الفطر، ويرقَّع حتَّى يحمى(30) . فسأل مبارك الطَّبريُّ مولاه _وهو يومئذ على بريد مكَّة(31) ونواحيها_ في أي الكسوة [للكعبة](32) أحسن؟ قالوا له: البياض. فأمر بكسوة من ديباج أبيض، فعُملت سنة ستٍّ ومئتين، وأرسل بها إلى الكعبة، فصارت تُكَسى ثلاث كُسَىً، الدِّيباج الأحمر يوم التَّروية، والقباطيَّ يوم هلال رجب، ويوم سبع وعشرين في رمضان الكسوة التي جعلها المأمون للفطر، ثمَّ رفع إلى المأمون أنَّ إزار الدِّيباج الأبيض يتخرَّق في أيَّام الحجِّ من مسِّ(33) الحجَّاج قبل أن يخاط عليها إزار الدِّيباج الأحمر الذي يخاط في عاشوراء، فبعث بفضل إزار ديباج أبيض، يُكسى يوم التَّروية، فيستر به ما تخرَّق من الإزار قبل أن يخاط عليها إزار الدِّيباج الأحمر، ثمَّ رفع إلى المتوكِّل أنَّ إزار الديباج الأحمر يبلى قبل هلال رجب من مسِّ النَّاس، فزادها إزارين مع الإزار الأوَّل، وأسبل قميصها الدِّيباج الأحمر حتَّى يبلغ(34) الأرض، ثمَّ جعل الإزار فوقه، كلَّ شهرين إزار، وذلك سنة أربعين ومئتين، ثمَّ كتب الحجبة أن إزاراً واحداً مع ما أذيل من قميصها يجزيها، فصار يبعث بإزار واحد، انتهى كلام ابن الجوزيِّ.
          تتمَّة:
          في ذكر السَّبب الحامل لتبَّع(35) على أن يكسو البيت، وكان تُبَّعٌ سار بالجيوش حتَّى حَيَّر الحيرة، وبنى سمرقند، وكان من ملوك اليمن، سمِّي تُبَّعَاً لكثرة أتباعه، وكذلك كلُّ من يأتي بعده؛ لأنَّه تَبِعَ صاحبه، وكان هذا يعبد النَّار، فأسلم ودعا قومه إلى الإسلام، وهم حِمْيَر، فكذَّبوه، فكان من خبره ما حكى ابن عبَّاس قال: كان تُبَّعٌ الآخِر، وهو أبو كَرْب أسعدُ بنُ مالك حين أقبل من المشرق، وجعل طريقه على المدينة، وكان حين مرَّ عليها خلف عليهم ابناً له، فقتل غيلة، فقدم عليها، وهو مجمع لإخرابها، واستئصال أهلها، فجمع له هذا الحيُّ من الأنصار حين سمعوا ذلك من أمره، فخرجوا لقتاله، فكان الأنصار يقاتلونه بالنَّهار، ويضيفونه(36) باللَّيل، فأعجبه ذلك، فقال: إنَّ هؤلاء لكرام. فجاءه حَبْرانِ من أحبار بني قُريظة، اسمهما كعب وأسد _وكانا / ابني عمِّ_ لمَّا سمعا من قصد إخراب المدينة، فقالا: أيُّها الملك، لا تفعل [ذلك] ؛ فإنَّك إن أبيت إلَّا ما تريد حيل بينك وبين ذلك، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، فإنَّها مهاجر نبيٍّ يخرج من قريش اسمه محمَّد، مولده هذا البلد، ومنزلك الذي أنت فيه، يكون به من القتل والجراح أمر عظيم في أصحابه(37) وأعدائه، فقال تبَّع: ومن يقاتله وهو نبيّق؟ قالا: يسير إليه قوم(38) فيقتتلون ههنا. فانتهى لقولهما عمَّا كان يريد من إهلاك(39) أهل المدينة، ثمَّ إنَّهما دعواه إلى دينهما، فأجابهما واتَّبعهما على دينهما، وأكرمهما، وانصرف عن المدينة، وخرج بهما و [إذا] نفرٌ من اليهود عامدين إلى اليمن، فأتاه في الطَّريق نفر من هُذيل، فقالوا: إنا ندلُّك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضَّة(40) . قال(41) : أيُّ بيت هو؟ قالوا: بيت بمكَّة. وإنَّما أرادت هذيل هلاكه؛ لأنَّهم عرفوا أنَّه لم يرده أحد بسوء إلَّا أهلكه الله، فذكر ذلك للأحبار، فقالوا: ما نعلم لله في الأرض بيتاً غير هذا، فاتَّخذه مسجداً، وانسُكْ عنده وانْحَرْ، وما أراد القوم إلا هلاكك. فأكرمَ البيت، وصنعَ ما يصنع أهله عنده، وأخذ النَّفر من هُذيل، فقطَّع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، ثمَّ صلبهم، ثمَّ كسا البيت، وهو أوَّل من كسا البيت الوصائل، ونحر بالشِّعْب ستَّة آلاف بدنة، وأقام به ستَّة أيَّام، وطاف بالبيت، وحلق رأسه وانصرف، فلمَّا دنا من اليمن ليدخلها حالت حِمْيَرُ بينه وبين ذلك، وقالوا: لا تدخل علينا، وقد فارقت ديننا. فدعاهم إلى دينه، وقال: إنَّه خير من دينكم. قالوا: فحاكمنا إلى النَّار. وكانت باليمن نار في أسفل جبل يتحاكمون [إليها فيما يختلفون] فيه، فتأكل الظَّالم، ولا تضرُّ المظلوم. قال تبَّع: أنصفتم. فخرج القوم بإفكهم وما يتقرَّبون به في دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما؛ حتَّى قعدوا للنَّار عند مخرجها، فخرجت النَّار فغشيتهم، وأكلت الأوثان ومن حملها من رجال حِمْيَر، وخرج الحبران بمصاحفهما يتلوان(42) التَّوراة، تعرق جباههم، لم تضرَّهما، ونكصت النَّار حتَّى رجعت إلى مخرجها، فتبعت حِمْيَرُ الحبرين على دينهما، فمن هناك أصل اليهوديَّة باليمن.
          وعن الرَّقاشيِّ أنَّ أسعد الحميريَّ من التُّبَّابعة، آمن بالنَّبيِّ صلعم قبل أن يبعث بسبعمئة سنة، وقالت عائشة: لا تسبُّوا تُبَّعاً؛ فإنَّه كان رجلاً صالحاً. وعن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلعم يقول: «لا تسبُّوا تبَّعاً، فإنَّه كان قد أسلم». وعن أبي هريرة ☺ قال: قال رسول الله صلعم: «ما أدري أَتُبَّعٌ كان نبيًّا أو غير نبيٍّ»؟ ذكر ذلك كله محي السُّنَّة في تفسير سورة الدُّخان(43) . /


[1] في (ن) تصحيفاً: (نفيلة).
[2] في (ن): (هجوً).
[3] في غير (ن): (الحليم).
[4] عيون الأثر:1/374.
[5] معالم التنزيل:3/335.
[6] في (ن): (قال) وهو في أسد الغابة:3/164، والشعر فيه.
[7] في غير (ن): (سمعته).
[8] في (ن): (بمال).
[9] في غير (ن): (أخلصه).
[10] في غير (ن): (هذا حجاج).
[11] في أسد الغابة: فدفعت إليَّ مالي.
[12] في (ن) تصحيفاً: (أنى).
[13] قصة الحجاج بن علاط في أسد الغابة مع الشعر:1/559.
[14] في (ن): (لم يذكر أنه متى).
[15] في غير (ن): (به).
[16] في (ن): (يهزم).
[17] الخبر مع الشعر في أسد الغابة:3/166.
[18] في (ن): (وأهلنا).
[19] في غير (ن): (الإلحاح).
[20] في (ن) زيادة: (الذين لا يسألون).
[21] الحديث أخرجه الترمذي برقم (3373)، والشعر مع الحديث في تفسير ابن كثير:1/125.
[22] في (ن) تصحيفاً: (عوف).
[23] مقدمة الفتح:ص475. وقول الكرماني في شرح البخاري:2/45.
[24] وفيات الأعيان:3/277.
[25] في (ن) تصحيفاً: (الميل) والتصويب من المصدر.
[26] في (ن): (اثنين).
[27] ص255، وفيه: فكان يأتي بالحبرة من الجَنَد. قلت: والجَنَد: من أرض السكاسك باليمن، والوصائل: ثياب حمر مخططة يمنية، والحبرة: برود يمانية مخططة.
[28] في (ن): (عبيد).
[29] في غير (ن): (بالقميص).
[30] في غير (ن): (يسمج).
[31] في غير (ن): (مباركاً) و(بريده) وجاء في (ن) تصحيفاً: (ونحواحيها) وفي غيرها (وصوافيها).
[32] في (ن): (الكعبة) والتصويب لضرورة السياق.
[33] في غير (ن): (مسيس).
[34] في غير (ن): (بلغ).
[35] في غير (ن): (لكسرى) وهو تصحيف من النساخ.
[36] في (ن) تصحيفاً: (يصغونه).
[37] في (ن): (والصحابة).
[38] سقطت (قوم) من غير (ن) و(س).
[39] في (ن): (هلاك).
[40] في غير (ن): (ندلك على كنز.. في بيت).
[41] في (ن): (قالوا).
[42] في غير (ن): (يتلون).
[43] معالم التنزيل:7/235.