غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

عبد الرحمن بن هرمز

          826 # عبد الرَّحمن بن هُرْمُز _بضمِّ الهاء والميم، بينهما الرَّاء، آخرها الزَّاي(1)_ أبو داود الأعرجُ، الهاشميُّ، مولى محمَّد بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطَّلب، المدنيُّ، التَّابعيُّ.
          ثقة، ثبت، عالم، من قرَّاء أهل المدينة.
          قال مسلم: هو من موالي بني مخزوم. وقال البخاريُّ مرَّة: هو عبد الرَّحمن بن هرمز. ومرَّة قال: عبد الرَّحمن بن كيسان. فاختلف في اسم أبيه.
          سمع: أبا هريرة، وعبد الله بن بُحينة، وأبا سلمة بن عبد الرَّحمن، وعُميراً مولى ابن عبَّاس.
          روى عنه: الزُّهريُّ، وصالح بن كيسان، وأبو الزِّناد، / وزيد ابن أسلم، وسعد بن إبراهيم، وجعفر بن ربيعة.
          نقل عنه البخاريُّ في صحيحه بالواسطة في مواضع، أوَّلها: في باب حبِّ الرَّسول من الإيمان، من كتاب الإيمان [خ¦14] .
          توفِّي بالإسكندريَّة، سنة سبع عشرة ومئة.
          تنبيه:
          يجوز أن يُذكر الرَّاوي بلقبه، وإن كان فيه نقص إذا كان مشهوراً بذلك، ولم يقصد بذلك التَّفكُّه بعرضه بل التعريف، كالأعرج، والأحول، والأحدب، إلى غير ذلك [كما مرَّ] ، وأمَّا التَّنابز المنهيُّ في كتاب الله تعالى، حيث قال جلَّ وعلا: { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } [الحجرات:11] [فقد] قال الزَّمخشريُّ(2) في كشَّافه: التَّنابز(3) التَّداعي بالألقاب، ويقال: النَّبز(4) اللَّقب السُّوء. والتَّلقيب المنهيُّ: ما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيراً به وذمًّا له، [وشيناً،] فأمَّا ما يحبُّه ممَّا يزينه وينوِّه به، فلا بأس به، قال صلعم: «من حقِّ المؤمن على أخيه أن يسمِّيه بأحبِّ أسمائه إليه». وروى الضَّحَّاك أنَّ قوماً من بني تميم استهزؤوا ببلال، وخبَّاب، وعمَّار، وصهيب، وأبي ذرٍّ، وسالم مولى أبي حذيفة، فنزلت الآية، وعن عائشة أنَّها كانت تسخر بزينب بنت خزيمة الهلاليَّة، وكانت قصيرة، فنزلت، وعن ابن عبَّاس أنَّ أمَّ سلمة ربطت حقوها بسَبيبة(5) ، يعني الشِّقَّة من الثَّوب، وهو بفتح المهملة، وتحتيَّة مثنَّاة ساكنة بين موحَّدتين، وسدلت طرفها خلفها، فكانت تجرُّه، فقالت عائشة لحفصة: انظري ما تجرُّ خلفها، كأنَّه لسان كلب. فنزلت. وعن أنس، عيَّرت نساء رسول الله صلعم أمَّ سلمة بالقصر، وعن ابن عبَّاس أنَّ صفيَّة بنت حييٍّ أتت رسول الله صلعم فقالت: إنَّ النِّساء يعيِّرنني، ويقلن: يا يهوديَّة (بنت يهوديٍّ). فقال: هلَّا قلت: «إنَّ أبي هارون، وعمِّي موسى، وزوجي محمَّد». وروي أنَّها نزلت في ثابت بن قيس، وكان به وقر، وكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلعم ليسمع، فأتى يوماً وهو يقول: تفسَّحوا. حتَّى انتهى إلى رجل، فقال له: تنحَّ. فلم يفعل، فقال: من هذا؟ فقال الرَّجل: أنا فلان بن فلان. فقال: بل أنت فلان بن فلانة. يريد أُمًّا كان يعيَّر بها في الجاهليَّة، فخجل الرَّجل، فنزلت الآية، فقال ثابت: لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبداً.
          والاسم ههنا الذِّكر، يقال: طار اسمه في النَّاس بالكرم، أو اللُّؤم(6) . أي: ثناؤه وصِيْتُه، كأنَّه قال: بئس الذِّكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائر أن يذكروا بالفسق.
          وفي قوله تعالى: { بَعْدَ الْإِيمَانِ } [الحجرات:11] ثلاثة أوجه، أحدها: استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره، كما تقول: بئس الشَّأن بعد الكِبَر الصَّبوة. والثَّاني: أنَّه كان في شتائمهم(7) لمن أسلم من اليهود: يا يهوديُّ، يا فاسق. فنهوا عنه، وقيل لهم: بئس الذِّكر أن تذكروا الرَّجل بالفسق واليهوديَّة / بعد إيمانه. والجملة على هذا التَّفسير متعلِّقة بالنَّهي عن التَّنابز لا غير. والثَّالث: أن يجعل من فسِّق غير مؤمن، كما يقول للمتحوِّل عن التِّجارة إلى الفلاحة: بئست الحرفة الفلاحة بعد التِّجارة. انتهى كلام الكشَّاف(8) .
          وقال في معالم التَّنزيل(9) : التَّنابز أن يُدْعَى الإنسان بغير ما سمِّي به. قال: هو قول الرَّجل للرَّجل: يا فاسق، يا منافق، يا كافر. وقال عطاء: هو أن تقول لأخيك: يا كلب، يا حمار، يا خنزير. وقال ابن عبَّاس: هو أن يكون الرَّجل عمل بالسَّيِّئات ثمَّ تاب عنها، فنهي عن أن يعيَّر بما سلف من عمله. انتهى.
          قلت: ويدلُّ لهذا حديث محاجَّة موسى لآدم، حيث تحاجَّا عند ربِّهما، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنَّته، ثمَّ أهبطت النَّاس بخطيئتك إلى الأرض. فقال آدم(10) : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كلِّ شيء، وقرَّبك نجيًّا، (فبكم) وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال: بأربعين عاماً. قال آدم: هل وجدت فيها: { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [طه:121] ؟ (قال: نعم). قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتب الله عليَّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلعم: «فحجَّ آدم موسى».(11)
          فائدة:
          وإنَّما أفحم آدم موسى؛ لأنَّه كان بعد زوال التَّكليف؛ لأنَّ المحاجَّة وقعت في السَّماء بين أرواحهما، ولأنَّ هذا كان بعد التَّوبة وقبولها، ولا يجوز لأحد أن يعيِّر بعد التَّوبة، كما نقل عن ابن عبَّاس، ثمَّ أعلم أنَّ الآية الشَّريفة، وإن كانت وردت في أناس معيَّنين _كما أشرنا إليه_ لكنَّها عامَّة في الكلِّ؛ لأنَّ الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السَّبب، كما بُيِّن في موضعه، ألا ترى قول الشَّافعيِّ: لا يصنع السَّبب شيئاً، إنَّما يصنعه الألفاظ؛ لأنَّ السَّبب قد يكون، ويحدث الكلام على غير السَّبب، وإذا لم يصنع السَّبب بنفسه شيئاً (لم يصنعه) بما بعده، ولم يمنع ما بعده أن يصنع ماله حكم إذا قيل. هذا لفظه بحروفه في كتاب الأمِّ(12) ، في باب ما يقع الطَّلاق، والحاصل أنَّ التَّنابز حرام في حقِّ الأمَّة عن آخرها؛ لما ذكر، خصوصاً إن ثبت قوله ╕: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة».(13) فإنَّه قد حكم على من وردت الآية فيه بالنَّهي، فسرى في حقِّ غيرهم من المكلَّفين، فتأمَّل.
          مسألة:
          يحرم على المكلَّف السَّبُّ؛ لأنَّ «سِباب المسلم فسوق، وقتاله كفر». كما قال صلعم، لكن إذا سبَّ إنسان إنساناً جاز للمسبوب أن يسبَّ السَّابَّ، بقدر ما سبَّه؛ لقوله تعالى: { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى:40] قلت: سمَّى الثَّانية سيِّئة للمقابلة، وإلا فإنَّها حسنة، كيف وأنَّ الله تعالى قد أمر بها؟! وإنَّ الله لا يأمر بالفحشاء. فتأمَّل، ولا يجوز أن يسبَّ أباه ولا أمَّه. روي أنَّ زينب لمَّا سبَّت عائشة قال لها صلعم: «سبِّيها». رواه أبو داود(14) ، وفي ابن ماجه(15) : «دونك، فانتصري عليها». / فأقبلت عليها، حتَّى يبس ريقها في فيها، فتهلَّل وجهه صلعم. [وقال:] إنَّما يجوز السَّبُّ بما ليس كذباً أو ظلماً، كقولك: يا ظالم، يا أحمق؛ لأنَّ أحداً لا يكاد ينفكُّ عن ذلك، وإذا انتصر بسبِّه، فقد استوفى ظلامته، وبرىء الآخر من حقِّه، وبقي عليه إثم الابتداء، والإثم لحقِّ الله تعالى. وقيل: يرتفع جميع الإثم بانتصاره. قاله الدَّميريُّ(16) تبعاً لابن الملقِّن، في آخر باب حدِّ القذف.
          خاتمة:
          ذكرها الدَّميريُّ في آخر كتاب السَّرقة(17) ، عن عائشة _وقد دعت على سارق سرق لها ملحفة_ أنَّ النَّبيَّ صلعم قال لها: «لا تُسَبِّخي(18) عليه بدعائك». قلت: هو بضمِّ المثنَّاة الفوقيَّة، وكسر الموحَّدة، ثمَّ معجمة، أي لا تُخَفِّفي الإثم الذي استحقَّه بالسَّرقة، وهذا يدلُّ على أنَّ الظَّالم يخفَّف عنه بدعاء المظلوم عليه، ويدلُّ له ما روى عمر بن عبد العزيز أنَّه قال: بلغني أنَّ الرَّجل ليظلم مظلمة، فلا يزال المظلوم يشتم الظَّالم وينتقصه حتَّى يستوفي حقَّه، ويكون للظَّالم الحقُّ عليه.
          وفي التِّرمذيِّ أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: «من دعا على من ظلمه فقد انتصر». فإن قيل(19) : مدح الله المنتصر من البغي، ومدح العافي عن الجرم، فكيف التَّوفيق بينهما؟ أجاب ابن العربيِّ(20) أنَّ الأوَّل محمول على ما إذا كان الباغي وقحاً، ذا جرأة وفجور، والثَّاني على من وقع منه ذلك نادراً. وقال الواحديُّ: إن كان الانتصار لأجل الدِّين فهو المحمود، وإن كان لأجل النَّفس فهو مباح، [لا يحمد عليه] .
          مهمَّة:
          اختلف العلماء في التَّحليل من الظُّلامة على ثلاثة أقوال، فكان ابن المسيَّب لا يحلِّل أحداً في عرض ولا مال، وكان ابن يسار، وابن سيرين يحلِّلان منهما، ورأى مالك التَّحليل في العرض دون المال.
          عجيبتان:
          ذكرهما الدَّميريُّ، أوَّلهما في خاتمة السَّرقة، وثانيتهما في كتاب الجنائز(21) ، فنقل عن كتاب اللَّطائف للقاضي أبي يوسف أنَّ امرأة من بني إسرائيل كانت صوَّامة قوَّامة، سرقت لها امرأة دجاجة، فنبت ريش الدَّجاجة(22) في وجه السَّارقة، وعجزوا عن إزالته عن وجهها، فسألوا عن ذلك بعض علمائهم، فقالوا: لا يزول هذا إلَّا بدعائها عليها. فأتتها عجوز، فذكَّرتها بدجاجتها، فلم تزل بها إلى أن دعت على سارقتها دعوة، فسقطت ريشة من وجهها، فلم تزل تكرِّر ذلك إلى أن سقط جميع الرِّيش.
          قال: وغسَّلت [امرأة] بالمدينة في زمن الإمام مالك امرأة، فالتصقت يدها على فرجها، فتحيَّر النَّاس في أمرهما، هل تقطع يد الغاسلة أو فرج الميتة؟ فاستفتي مالك، فقال: سلوها، ما قالت لما وضعت يدها عليها؟ فسألوها، فقالت: قلت: طالما عصى هذا الفرج ربَّه. فقال مالك: هذا قذف، اجلدوها ثمانين جلدة، تتخلَّص(23) يدها. فجلدوها ذلك، فتخلَّصت يدها، فمن ثمَّ قيل: لا يفتى ومالك بالمدينة. انتهى. قلت: صدق، / فإنَّ هذا الأمر لا يعرف، ولا يدرك(24) إلَّا بنور ربَّانيٍّ يفيض من واهب العقل على القلب، فيدرك بذلك ما لا يدرك عديم ذلك النُّور، اللهم كما نوَّرت قلوب أوليائك، فنوِّر قلوبنا، وبصِّرنا بعيوب أنفسنا، واعصمنا، وخذ بناصيتنا إلى طاعتك، يا مجيب الدَّعوات، ويا قاضي الحاجات.


[1] في غير (ن): (بينهما راء، آخرها زاي).
[2] الكشاف:4/369، سورة الحجرات:11.
[3] في (ن) تصحيفاً: (التباين).
[4] في (ن): (النبز والقرب).
[5] في (ن): (حقويها سبيبة).
[6] في غير (ن): (أو باللؤم).
[7] في غير (ن): (شتمهم).
[8] 4/371، الحجرات:12.
[9] للبغوي:7/343، الحجرات:11.
[10] في غير (ن): (فقال يا آدم) وهو تحريف.
[11] أخرجه البخاري برقم (3409).
[12] الأم للشافعي:5/276.
[13] قال العجلوني في كشف الخفا 1/364: ليس له أصل بهذا اللفظ، كما قال العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي، وقال في الدرر كالزركشي: لا يعرف. وسئل عنه المزي والذهبي فأنكراه، نعم يشهد له ما رواه الترمذي والنسائي من حديث أميمة بنت رُقيقة، فلفظ النسائي: ما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمئة امرأة.
[14] برقم (4900).
[15] برقم (2057).
[16] النجم الوهاج:9/146.
[17] النجم الوهاج:9/200.
[18] في الأصل (لا تنخي عليه) وهو تصحيف، والمثبت من مسند الإمام أحمد برقم (24183)، وضبطه للكلمة يقتضي ما أثبتناه، وبقية كتب الحديث الرواية فيها: (لا تسبخي عنه) وهو في سنن أبي داوود برقم (1497) وقال الألباني: ضعيف، وكذا حكم عليه شيخنا المحدث شعيب الأرناؤوط حفظه الله في تعليقاته على المسند، وجاء في رواية أخرى في المسند برقم (25798): (سرقت مخنقتي) بإعجام الحاء، قال في القاموس: المخنقة، كمكنسة: القلادة.
وحديث: (من دعا) في سنن الترمذي برقم (3552)، وهو حديث غريب، لا يعرف إلا من حديث أبي حمزة ميمون الأعور، وهو ضعيف.
[19] في (ن) تصحيفاً: (فعل).
[20] أحكام القرآن:7/88.
[21] النجم الوهاج:9/200، و3/97.
[22] في غير (ن): (فنبت ريشها أي الدجاجة).
[23] في غير (ن): (تخلص).
[24] في غير (ن): (لا يردك ولا يعرف).