غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

عباد بن عباد

          613 # عَبَّادُ بنُ عَبَّادِ بنِ حَبيب بنِ المُهَلَّب بن أبي صُفْرَةَ، المُهَلَّبِيُّ، الأَزْدِيُّ، العَتَكِيُّ، البصريُّ أبو معاوية.
          وثَّقه ابن معين، وأبو داود، والعجليُّ، (وغيرهم،) وقال أبو حاتم: لا يحتجُّ بحديثه. وقال ابن سعد: كان ثقة، وربَّما غَلط. وقال مرَّة: ليس بالقويِّ. قال ابن حجر(1) : ليس له في البخاريِّ سوى حديثين، أحدهما في الصَّلاة [خ¦523] ، في وفد عبد القيس، بمتابعة شعبة [خ¦53] وغيره، والثَّاني في الاعتصام [خ¦7340] ، بمتابعة إسماعيل بن زكريَّا [خ¦2294] ، واحتجَّ به الباقون.
          سمع: أبا جَمْرَةَ نَصْرَ بنَ عِمْرانَ، وعاصماً الأحول.
          روى عنه: مُسَدَّد، وقتيبة.
          قال سليمان بن حرب: مات قبل حمَّاد بن زيد بستَّة أشهر، ومات حمَّاد في شهر رمضان سنة تسع وسبعين ومئة. قال إبراهيم بن زياد: مات في رجب سنة ثمانين. قال البخاريُّ: وهذا أشبه عندي، وقال ابن سعد: مات سنة إحدى وثمانين ومئة.
          - اعلم أنَّ بني المُهَلَّبِ على كثرتهم رزقوا سعادة الدَّارين، من العلم والعمل، وفتح البلاد، وتطهير الأرض من الخوارج، إلى غير ذلك، فأحببت أن أذكر بعض مناقبهم، وأحوالهم، ووقائعهم؛ ليعتبر معتبر، ويتبصَّر من له بصيرة، وينشرح صدر من له كدورة، فأقول: أوَّل من سعد منهم جدُّهم مُهَلَّب _بضمِّ الميم، وفتح الهاء، وشدَّة اللَّام المفتوحة، آخرها موحَّدة_ بن أبي صفرة، كنِّي ببنته، واسمه ظالم بن سُراق.
          قال ابن خلِّكان(2) : قيل: إنَّه وقع إلى الأرض من صلب المهلَّب ثلاث مئة ولد، فالمهلَّبُ يصل نسبه إلى عمرو مُزَيْقِياء _بضمِّ الميم، وفتح الزَّاي، وسكون التَّحتيَّة، وكسر القاف، آخرها تحتانيَّة(3) مثنَّاة_ بن عامر ماء السَّماء ابن حارثة، وإنَّما لقِّب [عمرو] بذلك؛ لأنَّه كان يلبس كلَّ يوم حُلَّتين مَخُوْصَتَيْنِ بالذَّهب، فإذا أمسى مزَّقهما، يكره أن يعود فيهما، ويأنف أن يلبسهما أحد غيره، وكان ملك اليمن، وإنِّما سمِّي(4) أبوه عامر بماء السَّماء؛ لأنَّه كان إذا أجدب قومه مانهم(5) حتَّى يأتيهم الخصب، وقيل لولده: بنو ماء السَّماء، وهم ملوك الشَّام. قاله الجوهريُّ(6) ، وقال: مزيقياء هو الذي خرج من اليمن لمَّا أحسَّ بسيل العَرِمِ.
          قال ابن خلِّكان(7) : إنَّ الأنصار _وهم الأوس والخزرج_ من ذرِّيَّته.
          وحكى أبو عمر بن عبد البرِّ أنَّ الأكراد من نسل مُزَيْقِيَاءَ، وأنَّهم وقعوا في أرض العجم، فتناسلوا، وكثر ولدهم، فسمُّوا الكُرْد، وفي ذلك يقول الشَّاعر _من البحر الطَّويل_:
لعمرُكَ ما الأكرادُ أبناءُ فارسٍ                     ولكنَّهم أبناءُ عَمْروِ بنِ عامِرِ /
          قاله ابن خلِّكان(8) ، وقرَّره عليه، وتحقَّق صحَّة هذا المقال بقولِ صاحب القاموس، حيث قال: الأكراد جدُّهم كُرْدُ بنُ عَمْروٍ مُزَيْقِياءَ(9) بنِ عامرِ [بن] ماء السَّماء، فلله الحمد، حيث ظهر طينة أصل الأكراد، ودع ما يقول من لا خبرة له(10) ، أو أكله داء الحسد، وأحسن ما يَلْتَذُّ به القلب أنَّ الأكراد لم يك أحد منهم موجوداً زمن إبراهيم الخليل، صلوات الله وسلامه عليه(11) ، وإن ورد في بعض التَّفاسير _كمعالم(12) التَّنزيل_ عن ابن عمران أنَّه قال: الذي قال في حقِّ إبراهيم: { حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ } [الأنبياء:68] رجل من الأكراد اسمه هيزن، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، وذلك لما صحَّ من أنَّ الأكراد من ذرِّيَّة مزيقياء الذي خرج إلى الشَّام عن سيل العرم، وسيل العرم _كما قال النَّسفيُّ في تفسيره نقلاً عن الضَّحَّاك_(13) : كان زمن الفترة بين عيسى ومحمَّد، ╨، وأنت خبير أنَّ النَّسل لا يتقدَّم وجوداً على الجدِّ، كما يشهد به بديهة العقل، فظهر بطلان ذلك، ولله المنَّة.
          ومن الأكراد صحابيٌّ، وهو جابان _بجيم، ثمَّ موحَّدة بين ألفين، آخرها نون_والد ميمون التَّابعيِّ _كما ذكره يحيى بن منده_ وأمَّا من العلماء والزُّهَّاد والأمراء، كصاحب(14) الفتوحات، فممَّا(15) لا يعدُّ ولا يحدُّ، فتأمَّل.
          ولنرجع (إلى) ما كنَّا بصدده، قال الواقديُّ: كان أهل دَبَّا _بفتح المهملة وشدَّة الموحَّدة، موضع بين البحرين وعُمان_ أسلموا في عهد النَّبيِّ صلعم، ثمَّ ارتدُّوا بعده، ومنعوا الصَّدقة، فوجَّه إليهم أبو بكر عكرمةَ بن أبي جهل، فأثخن فيهم القتل، فتحصَّنوا في حصنهم، ثمَّ نزلوا على حكم حذيفة بن اليمان، فقتل مئة من أشرافهم، وسبى ذراريهم، وبعثهم إلى أبي بكر، فيهم أبو صفرة، [غلام لم يبلغ الحنث، فأعتقهم أبو بكر، وقال: اذهبوا أين شئتم. فتفرَّقوا، فكان أبو صفرة] ممَّن نزل البصرة، قال ابن قتيبة: هذا باطل؛ لأنَّ أبا صفرة لم يكن رآه أبو بكر قطُّ، وإنَّما وفد على عمر شيخاً، أبيض الرَّأس واللِّحية، فأمره أن يخضب فخضب، وكيف يكون غلاماً زمن أبي بكر، وقد ولد المهلَّب أصغر أولاده قبل وفاة النَّبيِّ صلعم بأكثر من ثلاثين سنة؟
          وكان المهلَّب من أشجع النَّاس، حمى البصرة من الخوارج، وله معهم الوقائع المشهورة بالأهواز، وكان سيِّداً جليلاً، روي أنَّه قدم على عبد الله بن الزُّبير مكَّة أيَّام خلافته، فخلا به، فدخل عليه عبد الله بن صفوان بن أميَّة، فقال: من هذا الذي شغلك يا أمير المؤمنين يومك (هذا)؟ قال: هذا سيِّد أهل العراق. قال: فهو المهلَّب بن أبي صفرة. /
          قال: نعم. فقال المهلَّب: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: سيِّد قريش. فقال: (هو) عبد الله بن صفوان. قال: نعم.
          قال ابن قتيبة: لم يُعب المهلَّب بشيء إلَّا بالكذب، وفيه قيل: راح يكذب. قال ابن قتيبة: وأنا أقول: كان المهلَّب أتقى النَّاس [لله] ، (وكان) أنبل من أن يكذب، ولكنَّه كان حَرَّاباً خَدَّاعاً، وقد قال صلعم: «الحرب خدعة». وقد كان يعارض الخوارج بالكلمة(16) يورِّي بها عن غيرها، يرهبهم بها، فسمَّوه الكذَّاب.
          قال المبرِّد(17) : رمي المهلَّب بالكذب، وكان فقيهاً يعلم ما جاء عن رسول الله، وأنَّه إذا أردا حرباً وَرَّى بغيرها، وأنَّه قال: «كلُّ كذب يكتب كذباً إلَّا ثلاثة: الكذب في الصُّلح بين الرَّجلين، وكذب الرَّجل لامرأته يعدها، وكذب الرَّجل في الحرب يتوعَّد ويتهدَّد»(18) . وكان المهلَّب ربَّما صنع الحديث(19) ليشدَّ به أمر المسلمين، ويضعف أمر الخوارج، وفيه يقول رجل من الأزد _من البحر الكامل_:
أنتَ الفَتَى كلُّ الفَتَى                     لو كنتَ تصدقُ ما تقول
          وكانت رُكُب النَّاس قديماً من الخشب، وكان الرَّجل يضرب بركابه فينقطع، فإذا أراد الضَّرب والطَّعن لم يكن له معين(20) ولا معتمد، فأمر المهلَّب، فضربت الرُّكُب من الحديد، فهو أوَّل من أمر بطبعها، وآخر ما ولي المهلَّب خراسان من جهة الحجَّاج الثَّقفيِّ، وفقئت عينه بسمرقند لمَّا فتحها سعيد بن عثمان في خلافة معاوية، وكذلك عَيْن سعيد، وعَيْن طلحة بن عبيد الله الخزاعيِّ، المعروف بطلحة الطَّلحات، المشهور بالجود، وفيه يقول المهلَّب _من البحر الطَّويل_:
لئن ذَهَبَتْ عيني لقد بقيتْ نَفْسِي                     وفيها بحمد الله عن تلك ما يُنْسِي
إذا جاء أمرُ اللَّهِ أَعْيَا خيولنا                     ولا بدَّ أن تعمىَ العيونُ لَدَى الرَّمْسِ
          وقيل: قد قلعت عينه بالطَّالقان(21) ، ولم يزل والياً بخراسان حتَّى أدركته الوفاة هناك، فعهد إلى ولده يزيد وأوصاه، فقال: استعقل الحاجب، واستظرف الكاتب، فإنَّ حاجب الرَّجل وجهه، وكاتبه لسانه.
          وله كلمات لطيفة، وإشارات مليحة، تدلُّ على كرمه ومكارم أخلاقه، ورغبته في حسن الثَّناء عليه، فمن ذلك قوله: الحياة الدُّنيا خير من الموت، والثَّناء الحسن(22) خير من الحياة، ولو أُعطيت في الآخرة ما لم يُعط أحد لأحببت أن يكون لي أذن أسمع بها ما يقال(23) فيَّ غداً إذا مت.
          وقال: يا بنيَّ أحسنُ ثيابِكم ما كان على غيركم. وقد أشار إلى هذا أبو تمَّام الطَّائيُّ، فيما كتبه إلى من يطلب منه كسوة _من البحر الطَّويل_:
فأنتَ العليمُ الطَّبُّ أيَّ وصيةٍ                     بها كان أوصىَ في الثياب المهلَّبُ(24)
          ولمَّا حضره الوفاة أحضر أولاده، ودعا بسهام، / فحزمت(25) ، وقال: أترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا: لا. قال: أفترونكم كاسريها مفرَّقة؟ قالوا: نعم. قال: فهكذا الجماعة. وأولاده كلُّهم(26) نجباء كرماء، ومن سراة أولاده أبو فراس المغيرة، وكان أبوه يقدِّمه في قتال الخوارج، وله معهم الوقائع المشهورة المأثورة، أبلى فيها بلاءً أبانَ عن نجدة وشهامة، وتوجَّه صحبةَ أبيه إلى خُراسان، واستنابه بمرو الشاهجان، وتوفِّي بها في حياة أبيه، في رجب سنة اثنتين(27) وثمانين، ورثاه زياد الأعجم أبو أمامة _من البحر الكامل_(28) :
قُلْ للقوافلِ والغُزاةِ إذا غَزَوا                     والباكرين وللمُجِدِّ(29) الرَّائحِ
إنَّ السَّماحةَ والمروءةَ ضُمِّنَا                     قَبْراً بِمَرْوَ على الطَّريقِ الواضِحِ
فإذا مررتَ بقبره فاعقِرْ به                     كُوْمَ الهِجَانِ وكلَّ طِرْفٍ سَابِحِ
وإذا يُنَاحُ على امرئٍ فتعلَّمي                     أنَّ المُغيرةَ فوق نوحِ النَّائِحِ
تبكي المغيرة خيلُنا ورماحُنا(30)                      والباكياتُ بِرَنَّةٍ وبِصائحِ
مات المغيرة بعد طول تعرِّض                     للقتل بين أسِنَّة وصفائحِ
كان المهلَّبُ بالمغيرة كالذي                     ألقى الدِّلاَءَ(31) إلى قَلِيْبِ المائحِ
ملكٌ أَغَرُّ متوَّجٌ تسمو له                     طرف الصَّديقِ بَغَضِّ طرفِ الكاشِحِ
رَفَّاعُ أَلْوِيةِ الحروَبِ إلى العِدَا                     بسُعُودِ طيرِ سوانحٍ(32) وبوارحِ
          وهذه من غرر القصائد، تنوف على خمسين بيتاً، واستشهد النُّحاة بالبيت(33) الثَّاني [على] جواز تذكير المؤنَّث غير الحقيقيِّ، وللمهلَّب عقب كثير بخراسان، يقال لهم: المهالبة. وفيهم يقول بعض شعراء الحماسة، وهو الأخنس الطَّائيُّ(34) _من البحر الطَّويل_:
نزلتُ على آلِ المهلَّب شاتياً                     بعيداً عن الأوطان في الزَّمن المَحْل
فما زالَ بي معروفُهم وافتقادُهُمْ                     وبِرُّهُمُ حتَّى حسبتُهمُ أهلِي
          ولما هزم المهلَّبُ قَطَرِيَّ بنَ فُجَاءَةَ الخارجيَّ بعث إلى مالك بن بشير أن سِرْ إلى الحجَّاج. وبعث إليه بجائزة فردَّها، وقال: إنَّما الجائزة بعد الاستحقاق. فلمَّا دخل على الحجَّاج قال: (ما اسمك؟ قال): مالك بن بشير. قال: (ملك و) بشارة. قال: كيف تركت المهلَّب؟ قال: أدرك ما أَمَّل، وأَمِنَ(35) ما خاف. قال: كيف (هو) بجنده؟ قال: والد رؤوف. قال: كيف رضاهم عنه؟ قال: وسعهم بالعدل، وأقنعهم بالفضل(36) . قال: كيف تصنعون إذا لقيتم عدوَّكم؟ قال: نلقاهم بحدِّنا فنقطع فيهم، ويلقوننا بحدِّهم فيطمعون فينا. قال: فما حال قطريِّ(37) بنِ فُجاءة؟ قال: كادنا بمثل ما كدناه (به). قال: فما منعكم من اتِّباعه؟ قال: رأينا المقام من ورائه خيراً من اتِّباعه. قال: فأخبرني عن ولد المهلَّب. قال: رعاة البَيَات حتَّى يأمنوه(38) ، وحماة السَّرح حتَّى يردُّوه. قال: أيُّهم أفضل؟ قال: ذاك إلى أبيهم. /
          قال: لتقولن(39) لي. قال: هم كحلقة مفرغة، لا يُعلم طرفاها. قال: أقسمت عليك، هل روَّيت في هذا الكلام. قال: ما أطلع الله أحداً(40) على غيبه. فقال الحجَّاج لجلسائه: هذا والله الكلام [المطبوع، لا الكلام] المصنوع(41) .
          ولمَّا هزم قطريًّا أنشده(42) رجل _من البحر البسيط_:
أَمْسَى العِبَادُ لَعَمْرِي لا غِيَاثَ لَهُمْ                     إلَّا المُهَلَّبُ بعدَ اللَّهِ والمَطَرُ
هذا يجودُ ويَحْمِيْ عن ذمارهم                     وذا يعيشُ بِهِ الأَنْعَامُ والشَّجَرُ
          فقال: هذا والله [إنَّه] الشعر. فأمر له بعشرين ألفاً، وأقام المهلَّب على مصابرة الخوارج تسع عشرة(43) سنة، إلى أن فتح الله على يديه، وطهَّر الأرض منهم، ولمَّا رجع من حروبه تلقَّته امرأة، فقالت: أيُّها الأمير، إنِّي نذرت إن أقبلت سالماً أن أصوم يوماً، وأن تهب لي جارية، وألف درهم. فضحك، وقال: قد وفَّينا نذرك، فلا تعاودي مثله، فليس كلُّ أحد يفي لك به. ووقف له رجل، فقال: أريد منك حُويجة. فقال: اطلب لها رُجيلاً. يعني أنَّ مثلي لا يسأل إلَّا حاجة عظيمة، ومرَّ يوماً بالبصرة، فقال رجل: انظروا هذا الذي ساد النَّاس، لو أُخرج إلى السُّوق لما سَوِيَ أكثر من مئة درهم. فبعث إليه مئة درهم، وقال: لو زدتنا في الثَّمن لزدناك في العطيَّة.
          ومن كلامه: عجبت(44) لمن يشتري العبيد بماله، ولا يشتري الأحرار بإحسانه وإفضاله(45) . وكان كثيراً ما يأمر بصلة الرَّحم والمكيدة في الحروب.
          وسئل المهلَّب: ما أعجب ما رأيت من قتال الأزارقة؟ قال: رأيت رجالاً منهم يُطعن أحدهم، فيمشي في الرُّمح إلى طاعِنِه، ويقول: { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } [طه:84] .
          ولمَّا طالت مدَّة(46) الإقامة للحرب كتب الحجَّاج إلى المهلَّب يستبطئه في مناجزة(47) الأزارقة ويستعجله(48) ، فحبس المهلَّب رسول الحجَّاج؛ حتَّى رأى صنيع الأزارقة، وجلدهم وثباتهم، وكتب إلى الحجَّاج: إنَّ الشَّاهد يرى ما لا يرى الغائب، فإن كنت نصبتني لحرب(49) هؤلاء على أن أدبِّرها كما أرى، فإذا أمكنني فرصة انتهزتها، وإذا لم يمكن توقَّفت، فأنا أدبِّر ذلك بما يصلحه، وإن أردت أن أعمل وأنا حاضر برأيك، وأنت غائب؛ فإن كان صواباً فلك، وإن كان خطأ فعليَّ، فابعث من رأيت مكاني، والسَّلام.
          وأوَّل ما تولَّى أمرهم المهلَّب زمن عبد الله بن الزُّبير، فإنَّ عبد الله كتب للمهلَّب عهدَه على(50) خراسان، (فقال: هذا عهدي على خراسان).
           فورد البصرة، وهم في قلق عظيم من الخوارج، فقال الأحنف بن قيس: والله ما للأزارقة غير المهلَّب، فكلِّموه في ذلك. فقال: هذا عهدي على خراسان، وما كنت لأدع أمر أمير المؤمنين.
          فاتَّفق أهل / البصرة أن يفتعلوا كتاباً على(51) ابن الزُّبير يأمره بقتال الخوارج، فكتبوا: أمَّا بعد، فإنَّ الحسن بن عبد الله كتب إليَّ أن الخوارج أصابوا جند المسلمين، وأنَّهم أقبلوا نحو البصرة، وقد رأيت أن نبتدئ بقتال الأزارقة قبل ورود خراسان، فإنَّ الأجر فيه أعظم. فلمَّا قرأ المهلَّب، فقال: والله لا أسير حَّتى تجعلوا لي ممَّا عيِّنت(52) عليه، وتقوُّوني من بيت المال، وأنتخب من رجالكم من شئت. فأجابوه إلَّا طائفة من مِسْمَع، فحقدها عليهم المهلَّب، وسار إلى الخوارج، فكان أشدَّ من كلِّ مَنْ قاتل(53) ، وبلغ ابن الزُّبير افتعال الكتاب، فلم يقل شيئاً، وأقرَّه على ذلك، ثمَّ إنَ المهلَّب أخذ (بالحزم) في قتالهم، فقدَّم العيون، وأقام الحرس، وخندق، فلمَّا أرادت الأزارقة أن يتأهَّبوا للمهلَّب(54) وجدوا أمراً محكماً، ثمَّ خرج يوماً على تعبئة حسنة، وخرج الخوارج على مثلها؛ إلَّا أنَّهم أحسن عدَّة، وأكرم خيلاً، وأكثر سلاحاً؛ لأنَّهم أكلوا ما بين كرمان إلى الأهواز، فجاؤوا في المغافر والدُّروع، فاشتدَّ القتال، وصبر بعضهم على بعض، فأقاموا على القتال عامَّة نهارهم، ثمَّ إنَّ الخوارج شدُّوا شدَّة منكرة، فانجفل النَّاس منهزمين، وسبقهم المهلَّب حتَّى لحق إلى مكان نفاع، ثمَّ نادى: إليَّ عباد الله (إليَّ). فثاب إليه جماعة من قومه نحو ثلاثة آلاف، فلمَّا رآهم رضيهم، فحمد الله، ثمَّ قال: أما بعد، فإنَّ الله يكل الجمع الكثير إلى أنفسهم فينهزمون، وينزل النَّصر على الجمع القليل، ولعمري أرى الآن بجماعتكم لرضا(55) ، وأنتم أهل الصَّبر وفرسان النَّصر(56) ، وما أحبُّ أنَّ أحداً ممَّن انهزم معكم، { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } [التوبة:47] عزمت على كلِّ نفر منكم إلَّا أخذ معه عشرة أحجار، ثمَّ امشوا بنا نحو معسكرهم، فإنَّهم الآن آمنون، وقد خرجت خيلهم في طلب إخوانكم. فقبلوا منه، ثمَّ أقبلوا زحفاً، فما شعرت الخوارج إلَّا بالمهلَّب، فضاربهم في جانب معسكرهم، ثمَّ استقبلوا أميرهم عبد الله بن الماحوز، وعليه وعلى أصحابه الدُّروع، فجعل الرَّجل من أصحاب المهلَّب يستعرض وجه الرَّجل بالحجارة حتَّى ينحِّيه، ثمَّ يضرب بسيفه، فلم يقاتلهم إلَّا ساعة، فقتل أميرهم، وصرف الله وجوههم، وأخذ المهلَّب عسكر القوم وما فيه، ومضى المنهزمون إلى كرمان وأصفهان. قال ابن خلِّكان(57) : إنَّما ظهر قطريٌّ زمن مُصْعَبَ بن الزُّبير، فبقي عشرين سنة يقاتل، ويسلَّم عليه بالخلافة؛ حتَّى قتل سنة ثمان / وسبعين، قتله سَوْدة(58) بن أبجر الدَّارِميُّ، في عسكر سفيان بن الأبرد الكلبيِّ، وكان القطريُّ(59) شجاعاً مقداماً، كثير الحروب، قويَّ النَّفس، لا يهاب الموت، وفي ذلك يقول مخاطباً لنفسه _من البحر الوافر_:
أقولُ لها وقد طَارَتْ شَعَاعَاً                     من الأبطالِ وَيْحكِ لن تُراعِي
فإنَّكِ لو سألتِ بقاءَ يومٍ                     على الأجَلِ الذي لكِ لم تطاعي
فَصَبْراً في مجال الموت صَبْراً                     فما نَيْلُ الخُلُودِ بمُستطاعِ
ولا ثَوْبُ الحياةِ بثوبِ عِزٍّ                     فيطوى عن أخي الخَنَعِ اليَرَاعِ
سبيلُ الموتِ غايةُ كلِّ حيٍّ                     وداعيهِ لأهلِ الأرضِ داعي
ومن لا يَغْتَبِطْ يَسْأَمْ ويَهْرَمْ                     وتُسْلِمهُ المَنُونُ إلى انقطاعِ
وما للمرءِ خَيْرٌ في حياةٍ                     إذا ما عُدَّ من سَقَطِ المَتَاعِ
          قال: وهذه الأبيات تشجِّع أجبن خلق الله، وما أعرف في الباب مثلها، وما صدرت إلَّا عن نفس أبيَّة، وشهامة قويَّة، والقطريُّ معدود من خطباء العرب، وأبياته في الحماسة(60) ، _وهو القائل لنفسه_ كما قال أبو عبيدة أيضاً _من البحر الوافر_:
أَبَتْ لي عِفَّتِي وأَبَى بَلائِي                     وأَخْذِي الحَمْدَ بالثمنِ الرَّبيحِ
وإمساكي عن المكروه نفسي                     وضَرْبِي هامَةَ البطلِ المُشِيْحِ
وقولي كلَّما جَشَأَتْ وجَاشَتْ                     مَكَانَكِ تُحْمَدِيْ أو تَسْتَرِيْحِي
لأدْفَعَ عن مآثرَ صالحاتٍ                     وأَحْمِي بعدُ عن عرضٍ صَرِيْحِ
          ونسب ابن هشام هذه الأبيات إلى عمرو، وقال السَّمعانيِّ(61) : ممَّن نُسب إلى المهلب من العلماء:
          أبو نصر منصور بن جعفر، مفتي سمرقند وإمامها في عصر المتأخِّرين من أصحاب الرَّأي، كان عارفاً بمذهب أبي حنيفة وأصحابه، فاضلاً مقتدًى به، ولم يكن يتقدَّم عليه أحد في الفتيا، توفِّي سنة اثنتين(62) وخمسين وثلاث مئة.
          ومحمَّد بن عَبَّاد المذكور في هذه التَّرجمة _وهو المعروف بمزيقياء أيضاً_ كان متولِّيَ الصلاة والإمارة بالبصرة، كان كريماً جدًّا، قال له المأمون: أردت أن أولِّيك، فمنعني إسرافك في المال. فقال: منع الموجود(63) سوء ظنٍّ بالمعبود. وقال له يوماً: لو شئت أبقيت على نفسك. فقال: يا أمير المؤمنين، من له مولًى غنيٌّ لا يفتقر. فاستحسن المأمون ذلك(64) ، وقال للنَّاس: من أراد أن يكرمني فليكرم ضيفي محمَّد بن عبَّاد. فجاءت الأموال إليه من كلِّ ناحية، فما برح وعنده منها درهم واحد، وقال: إنَّ الكريم لا تحنِّكه التَّجارب. ومات وعليه خمسون ألف دينار، سنة سبع عشرة ومئتين، فلمَّا بلغ العُتبيَّ قال: متنا بفقده، وهو حيٌّ بمجده.
          وأبو الهيثم(65) ، خالدُ بنُ خِدَاشٍ [المهلبيُّ، مولى آل المهلَّب، روى عنه أحمد بن حنبل، وغيره، حكى محمَّد بن المثَّنى قال: / انصرفت مع بشر بن الحارث في يوم أضحى من المصلَّى، فلقي خالد بن خِداش] المحدِّث فسلَّم عليه، فقصَّر بشرٌ في السَّلام، فقال: بيني وبينك مودَّة أكثر من ستِّين سنة، [ما تغيَّرت عليك]، فما هذا التَّغيُّر؟ فقال بشر: ما ههنا تغيُّر، ولا تقصير، ولكن هذا يوم تستحبُّ فيه الهدايا، وما عندي من عرض الدُّنيا شيء(66) أهدي، وقد روي أنَّ المسلمَين إذا التقيا كان أكثرهما ثواباً أبشَّهما لصاحبه(67) ، فتركتك لتكون أفضل ثواباً. مات سنة ثلاث وعشرين ومئتين.
          وأبو عِمْران إبراهيم بن هانئ(68) المهلَّبيُّ، الفقيه الشَّافعيُّ، الجُرْجانيُّ، كان من العلماء والزُّهَّاد، وتخرَّج عليه جماعة، كالشَّيخ أبي بكر الإسماعيليِّ، وقبره معروف _بباب قنطرة_ يُزار، وخرج يوماً إلى الجامع، وقد لبس ثياباً فاخرة، وكان حسن اللِّباس، وتعطَّر، فرأته امرأته، فقالت: يقال: إنَّك عابد زاهد، وتلبس مثل هذه الثِّياب! ألا تستحي من الله؟ فقال: أستحي من الله أن أقدر أَلْبَسُ أحسن من هذا فلا ألبس.
          وغيرهم، وسيأتي في ترجمة مَعْمَرٍ ذكره، فإنَّه أيضاً مهلَّبي، ومن المهالبة: أبو [محمَّد] الحسن بن محمَّد المهلَّبِيُّ، وزير مُعِزِّ الَّدولة ابن بُويه الدَّيْلَمِيِّ، كان من ارتفاع القدر، واتِّساع الصَّدر، وعلوِّ الهمَّة، وفيض الكفِّ على ما هو مشهور، وكان في غاية الأدب والمحبَّة لأهله، وكان قبل الوزارة في شدَّة عظيمة من الفقر، فمن كلامه _من البحر الوافر(69)_:
ولو أنِّي استزدتُك فوق ما بي                     من الَبْلَوى لأَعْوَزَكَ المَزِيْدُ
ولو عُرِضَتْ على المَوْتَى حَيَاةٌ                     بعيشٍ مثل عَيْشِي لا يريدوا
          ولقيه في بعض أسفاره جوع عظيم، فقال ارتجالاً أيضاً _من البحر الوافر(70)_:
(ألا مَوْتٌ يُباع فأشتريه                     فهذا العيشُ ما لا خيرَ فيْهِ)
ألا موتٌ لذيذُ الطَّعمِ يأتي                     يخلِّصني من العيش الكَرِيْهِ
إذا أبصرتُ قبراً من بَعيدٍ                     وددتُ لو انَّني ممَّا يَلِيْهِ
أَلاَ رَحِمَ المُهَيْمِنُ نَفْسَ حُرٍّ                     تَصَدَّقَ بالوفاةِ على أَخِيْهِ
          وكان معه رفيق، فلمَّا سمع الأبيات اشترى بدرهم لحماً وخبزاً وأطعمة، وتقلَّبت الأحوال بالمهلَّبيِّ، فتولَّى الوزارة ببغداد لمعزِّ الدَّولة، وضاقت الدُّنيا برفيقه الذي اشترى له اللَّحم والخبز، وبلغه توليته الوزارة، فقصده وكتب إليه _من البحر الوافر(71)_:
ألا قُلْ للوزيرِ فَدَتْهُ نَفْسِي                     مَقَالَةَ مُذْكِرٍ ما قَدْ نَسِيْهِ
أتذكُر ما تقولُ لضِيْقِ عَيْشٍ                     أَلاَ موتٌ يُبَاعُ فَأَشْتَرِيهِ
          فلمَّا وقف عليها هيَّجَتْه أَرْيحيَّة(72) الكرم، فأمر له بسبع مئة درهم، ووقَّع(73) في الحال في رقعة {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء } [البقرة:261] / ثمَّ دعا به، فخلع عليه، وقلَّده عملاً يرتفق به، ولمَّا تولَّى المهلَّبيُّ الوزارة بعد تلك الإضاقة ارتجل أبياتاً _من البحر الكامل(74)_ يتذكَّر ما مضى:
رَقَّ الزَّمانُ لِفاقَتي                     ورَثَى لطُولِ تَحَرُّقي
فأنالَني ما أَرْتَجِيْـ                     ـهِ وحاد عَمَّا أَتَّقِي
فَلأَصْفَحَنْ عَمَّا جَنَا                     هُ من الذنوبِ السُّبَّقِ
حَتَّى جِنَايَتهُ بما                     صَنَع المَشِيْبُ بِمَفْرِقي
          توفِّي في طريق واسط، وحمل إلى بغداد، سنة اثنتين(75) وخمسين وثلاث مئة.
          ومنهم: أبو حاتم رَوْحُ بن حاتِم المهلَّبيُّ، كان من الكرماء، تولَّى لخمسة من الخلفاء: السَّفَّاح، والمنصور، والمهديِّ، والهادي، والرَّشيد، يقال: لم يتَّفق مثل هذا إلَّا لأبي موسى الأشعريِّ، فإنَّه ولي لرسول الله صلعم، وللخلفاء الأربعة. ومن عجيب أمره أنَّه كان والياً بالسِّنْد، وأخوه يزيد في إفريقية [والياً] ، فتوفِّي يزيد بها، سنة سبعين ومئة، بعد توليته خمس عشرة سنة، فتعجَّب النَّاس من بُعْدِ ما بين الأخوين، فقُدِّر أنَّ الرَّشيد عزل رَوْحاً، وولاَّه موضع أخيه، فتولَّاها أربع سنين، ثمَّ مات بها، ودفن في قبر أخيه يزيد، بباب سَلْم، بمدينة قيروان.
          ومنهم: أبو خالد، يزيد المذكور، أخو رَوْحٍ، المهلَّبيُّ، كان جواداً، سريَّا، مقصوداً، مُمَدَّحاً، قصده جماعة من الشعراء، فأحسن جوائزهم، قال سُحنون: كان يقول يزيد: والله ما هبتُ شيئاً قطُّ هيبتي لرجل ظلمته، وأنا أعلم أنه لا ناصر له إلَّا الله، فيقول: حسبك الله، بيني وبينك الله. عزله المنصور من مصر، وولَّاه أفريقية، وسيَّره لحرب الخوارج الذين قتلوا عامله عمر بن حفص، وجهَّز معه خمسين ألفاً، فاستظهر على الخوارج سنة خمس وخمسين، وقصده ربيعة بن ثابت الأَسَدِيُّ، فلم يَرَ منه ما كان يرجوه، فنظم أبياتاً من جملتها _وهي(76) من البحر(77) الطَّويل_:
أراني ولا كُفْرانَ لله راجِعَاً                     بخُفَّيْ حُنَيْنٍ من نَوَالِ ابنِ حاتِم
          فعاد عطفه عليه، وبالغ في الإحسان عليه، وقصد ربيعةُ هذا يزيدَ بنَ سُلَيْم، وهو والٍ على أرمينيَّة، ومدحه بأبيات أجاد فيها، فقصَّر في حقِّه، وكان يزيد هذا في لسانه تمتمة، ثمَّ قصد ربيعةُ يزيدَ بنَ حاتِم، فبالغ في الإحسان إليه، فأنشد ربيعةُ أبياتاً يفضِّل فيها يزيدَ بنَ حاتمِ على يزيد بن سُليم _من البحر الطَّويل_:
حلفتُ يميناً غيرَ ذي مَثْنَوِيَّةٍ                     يمينَ امرئٍ آلَى بها غير آثِمِ
لَشَتَّانَ ما بين اليَزِيْدَيْنِ في النَّدَى                     يزيد سُلَيْمٍ والأَغَرِّ بنِ حاتِمِ /
يزيدُ سُلَيْمٍ سَالَمَ المَالَ والفَتَى                     أَخُو الأَزْدِ للأموالِ غيرُ مُسَالِمِ
فَهَمُّ الفَتَى الأَزْدِيِّ إتلافُ مالِهِ                     وهَمُّ الفَتَى القَيْسِيِّ جَمْعُ الدَّراهِمِ
فلا يحسب التَّمْتَامُ أنِّي هجوتُه                     ولكنَّني فَضَّلْتُ أهلَ المَكَارِمِ
فيا أيُّها السَّاعِي الذي ليس مُدْرِكَاً                     بمسعاتِه سَعْيَ البُحُورِ الخَضَارِمِ
سعيتَ ولم تُدرِكْ نَوَالَ ابنِ حاتِمٍ                     لفكِّ أسيرٍ واحْتِمال العَظَائمِ
كَفَاكَ بِنَاءَ المَكْرُمَاتِ ابنُ حاتمٍ                     فتَقْرَع إنْ سَامَيْتَهُ سِنَّ نَادِمِ
هو البحر إنْ كلَّفْتَ نفسَك خَوْضَهُ                     تهالكتَ في أمواجِهِ المتلاطِمِ
ألا إنَّما آلُ المهلَّبِ غُرَّةٌ                      وفي الحربِ قاداتٌ لكم بالخَزَائِمِ
هم الأَنْفُ في الخُرطومِ والناسُ بعدَهُمْ                     مَنَاسِمُ والخُرطومُ فوقَ المَنَاسِمِ
قَضَيْتُ لكم آلَ المهلَّبِ بالعُلاَ                     وتَفْضِيْلُكُمْ حَقَّاً على كلِّ حاكِمِ
لكم شِيَمٌ ليستْ لخَلْقٍ سِوَاكُمُ                     سماحٌ وصدقُ البأسِ عند المَلاحِمِ
مُهينونَ للأموالِ فيما يَنُوبُكُمْ                     مَنَاعِيْشُ دَفَّاعُونَ عن كلِّ جَارِمِ
          ولمَّا عقد أبو جعفر ليزيدَ المهلَّبيِّ على أفريقية، وليزيد السُّلَميِّ على ديار مصر، خرجا معاً، وكان المهلَّبيُّ يقوم بكفاية الجيشين، أنشد ربيعةُ الرَّقِّيُّ المذكور _من (البحر) الوافر(78)_:
يَزِيْدَ الخَيْر إنَّ يزيدَ قَوْمِي                     سَمِيَّكَ لا يَجُودُ كَمَا تَجُودُ
تَقُودُ كتيبةً ويقودُ أُخرى                     فَتَرْزُقُ مَنْ تَقُودُ ومَنْ يَقُودُ
          حكي أنَّه دخل الأشعب الطَّمَّاع على يزيد المهلَّبيِّ _وهو بمصر_ فدعا يزيد بغلامه وَسَارَّهُ، فقام أشعب، وقبَّل يده، فقال: مالك؟ قال: ظننت أنَّك أمرت لي بشيء. فضحك (منه)، وقال: ما فعلت [ذلك] ، ولكنِّي ما أخيِّبك. فأحسن صلته.
          ومن عجيب أمر الأشعب أنَّ فقيراً قد تخرَّق قميصه، ولم يملك سواه، فنزع القميص، ودفعه إلى خياط ليصلحه، وقعد عرياناً في زاوية ينتظر فراغ القميص، فجلس الأشعب حِذاءه، وأطال(79) الجلوس، فسئل عن ذلك، فقال: أطمع في القميص، لعلَّ صاحبه ينسى(80) ، فيذهب فآخذه. ورأى مرَّة جماعة من الصِّبيان يلعبون، فقال لهم كاذباً: وراءكم رجل يتصدَّق بالحلاوة، فأُهْرِعَ الصِّبية [نحوه] ، فأبطؤوا، فأسرع الأشعب في أثرهم، فسئل عن ذلك، فقال: لعلَّ الخبر صحيح، [أقصدهم] وأشاركهم. إلى غير ذلك من الغرائب.
          حُكي أنَّه وفد على يزيد المهلَّبيِّ شاعر، فأنشده _من (البحر) الطَّويل_:
إليكَ قَصَرْنَا النِّصْفَ من صَلَواتِنا                     مسيرةَ شَهْرٍ ثم شَهْرٍ نواصِلُهْ
فلا نحن نخشَى أنْ يَخِيْبَ رجاؤنا                     لديكَ ولكنْ أَهْنَأُ البِرِّ عاجِلُهْ
          فقال: من أحبَّني فليضع [لزائري] درهمين. وكان عسكره خمسين ألفاً، فاجتمع مئة ألف، وضمَّ إليها مثلها يزيد، ورفعها إليه، وقال يزيد مرَّة لجلسائه: استبِقُوا إلى ثلاثة أبيات. فقال صَفْوَانُ بنُ صَفْوَانَ: أفيك؟ قال: فيمن شئتم. /
          فقال مرتجلاً _من البسيط_:
لم أَدْرِ ما الجُودُ إلَّا ما سمعتُ به                      حتَّى لقيتُ يزيداً عصمةَ النَّاسِ
لقيتُ أجودَ من يمشي على قدمٍ                      مُفَضَّلاً برداءِ الجُودِ والبَاسِ
لو نِيْلَ بالجُودِ مَجْدٌ كنتَ صاحبَه                     وكنتَ أولَى به
          ثم كَفَّ، فقال: أتمم: من آل عباس. فقلت: لا يصلح. فقال: لا يسمعن هذا منك أحد.
          قال الأصمعيُّ: أسهرني(81) ليلتي هذه شعر ابن المولى في يزيد المهلَّبيِّ _من البحر الكامل_:
وإذا تُبَاعُ كَرِيمةٌ أو تُشْتَرَى                     فَسِوَاكَ بائعُها وأنتَ المشترِي
وإذا تَخَيَّلَ من سَحَابِك لامِعٌ                     سبقتْ مَخِيْلتُه يدَ المُسْتَمْطِرِ
وإذا صنعت صنيعةً أتممتَها                     بيدَينِ ليس نداهُما بمُكَدَّرِ
وإذا الفوارسُ عَدَّدَتْ أبطالَها                     عَدُّوكَ في أَبطالِهمْ بالِخِنْصَرِ
          قلت: يعني: في الأوَّل؛ لأنَّ الحساب أوَّل ما يبدأ بالخنصر، ثمَّ بالبنصر، ولما ورد عليه ابن المولى المذكور، وهو أمير مصر، أنشده _من البحر الكامل(82)_:
يا أوحدَ العربِ الذي                     أضحَى وليس له نَظِيْرْ
لو كانَ مثلك آخرٌ                     ما كان في الدنيا فَقِيْرْ
          فدعا يزيد بخازنه، وقال: كم في بيت مالي؟ قال: من النَّقد عشرون ألف دينار. قال: ادفعها إليه. ثمَّ قال: إلى الله وإليك المعذرة، والله لو أنَّ في ملكي غيرها لما ادَّخرتها عنك _واسم ابن المولى محمَّد بن(83) مسلم، أبو عبد لله_ أتاه البشير أنَّه ولد له ابن، فقال: سمَّيته المغيرة. فقال التَّميميُّ: بارك الله لك [أيُّها الأمير] فيه، وبارك له في بنيه، كما بارك لجدِّه في أبيه.
          ومنهم: يزيد بن المهلَّب بن أبي صفرة، أميرهم(84) ، وكبيرهم، وواسطة عقدهم، وكان الحجَّاج بن يوسف يحسده ويخافه، ولم يزل يكيده إلى أن غيَّر عليه خاطر الخليفة، فحبسه وعذبَّه؛ مع أن الحجَّاج كان متزوِّجاً بأخته(85) أسماء بنت المهلَّب، وكان بطلاً كريماً ممدَّحاً. قال الأصمعي: لمَّا قبض عليه الحجَّاج، وجعل يعذِّبه بسوء العذاب، سأله أن يخفِّف عنه العذاب على أن يعطيه كلَّ يوم مئة ألف، وإن لم يؤدِّه عذبه إلى اللَّيل، فجمع يوماً مئة ألف، ليشتري بها عذاب يومه، فدخل عليه الأخطل، والفرزدق، أو زياد الأعجم، فأنشده _من الطَّويل_:
أبا خالدٍ بادتْ خراسانُ بعدَكم                     وقال ذوو الحاجاتِ أينَ يَزيدُ
فلا مَطَرُ المَرْوانِ بعدك مِطْرَةٌ                     ولا اخْضَرَّ بالمروين بَعْدَكَ عُوْدُ
فما لسَريرِ المُلكِ بعدَكَ بهجةٌ                     ولا لجَوادٍ بعدَ جُودِك جُوْدُ
          فأعطاه المئة ألف، وبلغ الحجَّاج ذلك، فدعا به، وقال: يا مروزيُّ، أكلُّ هذا الكرم وأنت بهذه الحالة؟ قد وهبت لك عذاب اليوم وما بعده. ولمَّا هرب من الحجَّاج إلى عبد الملك _وهو بالرَّملة_ اجتاز على أبيات عربٍ بالشَّام، فاستسقى، / فسقاه غلام لبناً، فقال: أعطه ألف درهم.
           قال: إنَّ هؤلاء لا يعرفونك. قال: لكنِّي أعرف نفسي.
          ولمَّا حبسه عمر بن عبد العزيز، ومنع النَّاس من الدُّخول عليه _وكان سعيد بن عمرو بن العاص مؤاخياً ليزيد_ فقال: يا أمير(86) المؤمنين، لي على يزيد خمسون ألف درهم، وحِلْتَ بيني وبينه، فلو أذنتَ لي في الدُّخول عليه؟ فلمَّا دخل سُرَّ به، وقال: كيف دخلت عليَّ؟ فأخبره الخبر، فقال: والله لا تخرج إلَّا ومعك خمسون ألفاً.
           فامتنع سعيد، فأكَّد اليمين ليقبضها، فحمل إلى بيته المبلغ، فأنشد بعضهم _من الطَّويل_:
فلم أر محبوساً من النَّاس ماجداً                     خياراً يُرى في السِّجن غيرَ يزيدِ
سعيدُ بنُ عَمْرٍو إذْ أتاه أَجازَه                     بخمسين ألفاً عُجِّلَتْ لِسَعيدِ
          ودخل عليه الفرزدق _وهو في حبس عمر بن عبد العزيز_ فرآه مقيَّداً، فأنشده _من البحر المنسرح_:
أصبح في قيدِك السَّماحةُ وال                     جودُ وحَمْلُ الدِّياتِ والحَسَبُ
لا بَطَرَ إن ترادفَتْ نِعَمٌ                     وصابَرَ في البَلاءِ مُحْتَسِبُ
          فقال: ويحك! تمدحني على هذه الحالة. قال: رأيتك أهلاً(87) ، فأحببت أن أسلف بضاعتي (فيك)، فرمى إليه بخاتمه، وقال: شراؤه ألف دينار، وهو ربحك إلى أن يأتي رأس المال. وحجَّ مرَّة، فطلب حلَّاقاً فحلق رأسه، فأمر له بألف درهم، فدهش الحلَّاق، وقال: أمضي بهذه إلى أمِّي فأشتريها. فقال: أعطوه ألفاً أخرى. فقال: امرأتي طالق إن حلقت رأس أحد بعدك. فقال: أعطوه ألفين آخرين.
          ولقد أطنبنا في بني المهلَّب، ومن أراد الاطِّلاع على سيرة يزيد، فلتطلب من وفيات ابن خلِّكان(88) . قال خليفة(89) بن خيَّاط: ولد يزيد سنة ثلاث وخمسين، وقتل سنة اثنتين ومئة.


[1] مقدمة الفتح: ص412.
[2] وفيات الأعيان:5/354.
[3] في غير (ن): (تحتية).
[4] في غير (ن): (لقب).
[5] في (ن) تصحيفاً: (يأتهم).
[6] في الصحاح: (مهه).
[7] وفيات الأعيان:5/357، وقول صاحب القاموس في (كرد)، وما بين حاصرتين منه، واستدرك الزبيد على صاحب القاموس بقوله: والصواب أن ماء السماء لقب لعامر، ويدل له قول الشاعر:
~أنا ابن مزيقيا عمروٍ وَجِّدي أبو عامر ماء السماء
[8] وفيات الأعيان:5/358 والبيت فيه مع اختلاف في رواية الشطر الثاني: ولكنه كُرَدُ بنُ عَمْرو بنِ عامرِ، وكذلك الرواية في اللسان، (كرد).
[9] في (ن): (ومزيقياء).
[10] في (ن): (به).
[11] في غير (ن): (صلوات الله عليه وسلامه).
[12] للبغوي:5/326.
[13] تفسير النسفي المسمى مدارك التنزيل وحقائق التأويل:2/59. دار الكلم الطيب.
[14] في غير (ن): (صاحب).
[15] في غير (ن): (فما).
[16] سقط قوله (بالكلمة) من الأصول واستدركت من المصدر.
[17] في الكامل:3/228- 229، والمستدرك من وفيات الأعيان:5/352، والشعر مع الخبر في كلا المصدرين.
[18] أخرجه مسلم (2605) بمعناه، وسقطت كلمة (ثلاثة) من الأصول كلها واستدركت من المصدر
[19] سقطت كلمة (الحديث) من الأصول كلها واستدركت من المصدر.
[20] في (ن) تصحيفاً: (معنى).
[21] في (ن) تصحيفاً: (الطائفان).
[22] سقطت كلمة (الحسن) من النسخ كلها واستدركت من المصدر
[23] في (ن) تصحيفاً: (تقول).
[24] سقط بيت الشعر من (ن) وسقط الشطر الأول من البيت من النسخ كلها واستدركته من الوفيات:5/353، وديوان أبي تمام:1/286.
[25] في (ن) تصحيفاً: (فخرجت).
[26] في غير (ن): (كلها).
[27] في (ن) تصحيفاً: (اثنين).
[28] الأبيات مع الخبر في وفيات الأعيان:5/354، وجاء في هامش (ه): الطِّرف _بكسر المهملة_ الفرس الجواد، كاتبه.
[29] في (ن): (للباكرين وللمحيد).
[30] في (ن): (خيلنا وفرس رماحنا) ولا تصح هذه الزيادة، وجاء في (ن): (برقة) بدل (برنة).
[31] في (ن): (البلاء).
[32] في الأصول كلها: (سانح) والمثبت من المصدر.
[33] في غير (ن): (على البيت).
[34] الأبيات في وفيات الأعيان:5/357، وكذلك الخبر بعدها.
[35] في (ن) تصحيفاً: (وابن).
[36] في غير (ن): (وسعهم بالفضل، وأقنعهم بالعدل).
[37] في (ن) تصحيفاً: (قطرر).
[38] جاءت في غير (ن) مهملة من غير إعجام هكذا: (البيان) وكأن قراءتها شمست على النساخ، وفي الوفيات (البيات)، هو من التبييت، وهو الإيقاع بالعد ليلاً وهم غارُّون، فيكون المعنى على هذا: أنهم لا يرقبون عدوهم حتى يأمنوا الفاجعة بالنساء والذرية، وقد أمن رسول الله صلعم من البيات. راجع مغازي الواقدي:2/667، ويمكن قراءة اللفظة على وجه آخر: (رعاة الشاء) وهو بعيد؛ لأن الشاء من السرح.
[39] في (ن) تصحيفاً: (لنقولنا).
[40] في (ن) تصحيفاً: (أحمداً).
[41] الخبر في العقد الفريد:2/82، وما بين حاصرتين منه.
[42] الشعر في الأغاني:13/86.
[43] في (ن): (تسعة عشر).
[44] في (ن) تصحيفاً: (عجيب).
[45] في (ن): (لا يشتري الأحرار بإفضاله).
[46] في (ن) تصحيفاً: (هذه).
[47] في (ن) تصحيفاً: (مناجز).
[48] في غير (ن): (يستعجزه).
[49] سقط مقدار سطرين من (ه).
[50] في (ن): (إلى) والمثبت أولى.
[51] في غير (ن): (إلى) وفي (ن): (يأمر) بلا هاء الضمير.
[52] في غير (ن): (غلبت).
[53] في (ن) تصحيفاً: (قابل).
[54] في غير (ن): (أرادت الأزارقة بيات المهلب).
[55] في (ن): (إن الآن بجماعتكم لراض).
[56] في (ن): (المصر) وبداية الآية فيها (لو كان..) وهو تصحيف.
[57] وفيات الأعيان:4/93. والأبيات مع الخبر عنده، وسقط من (ه) البيت الثاني، وأصلحت كثيراً من الألفاظ التي غمضت، وقومت منآدَّها دونما إشارة إليها لكثرتها.
[58] في (ن) تصحيفاً: (سود).
[59] في غير (ن): (وكان قطريٌّ) وكذا الموضع بعده.
[60] في الحماسة البصرية:1/3، ونسب الأبيات لعمرو بن الإطنابة الأنصاري، وكذا هي في الوفيات:5/241 منسوبة لعمرو، ورواية البيت الثاني عنده: وإجشامي على المكروه نفسي. والرواية في (ن) وحدها (وصبر لي) بدل (وضربي).
[61] الأنساب:5/418.
[62] في (ن): (اثنين) والمثبت هو الوجه في اللغة.
[63] في غير (ن): (الجود).
[64] في (ن): (على ذلك) والمثبت أفصح.
[65] في (ه) (ودخل أبو الهيثم خالد بن خداش المحدث فسلم عليه) وفيها سقط وتحريف. والخبر في وفيات الأعيان:2/232.
[66] في غير (ن): (وما عندي شيء من عرض الدنيا).
[67] في (ن) تصحيفاً: (بشهما بصاحبه).
[68] في (ن) تصحيفاً: (بن أبي).
[69] رواية البيت الثاني في غير (ن): (ولو عرضت على الموتى حياتي... وعيش).
[70] سقط من (ن) البيت الأول وفيها: (يخلصني من الموت الكريه).
[71] الرواية في (ن): (فديت نفسي) بدل (فدته نفسي).
[72] في (ن) تصحيفاً: (أريحة).
[73] في (ن) تصحيفاً: (ودفع).
[74] بل هو من مجزوء الكامل، والشعر في وفيات الأعيان:2/125. وجاء في (ن) تصحيفاً: (عما اتنا) بدل (عما جناه)
[75] في (ن): (اثنين).
[76] في (ن): (وهو) وله وجه على إرجاع الضمير إلى الشعر أو النظم.
[77] البيت مع ما بعده من الشعر والأخبار في وفيات الأعيان:6/323- 324، والقصيدة أيضاً في خزانة الأدب للبغدادي:6/287- 289. مع اختلاف في رواية بعض الأبيات، وجاء في (ن): (فشتان) بدل (لشتان)، وفيها البيت الأخير: (جاءم) بدل (جارم) وهو تصحيف، ورواية الشطر الثاني من البيت الثامن في غير (ن): (ونمت وما الأزدي عنها بنائم).
[78] الشعر مع الخبر في الوفيات:6/324- 325، وكذا ما بعده، وقول ربيعة في شعره: يزيد قومي، يدل على أنه مولى بني سلمى، والله أعلم.
[79] في (ن): (وطال).
[80] في غير (ن): (يكتسي).
[81] في غير (ن): (أسهرتني) وفي غيرها (ليلتي من شعر) بدل (ليلتي هذه) وجاء في رواية البيت الثالث في (ن): (بيديَّ) بدل (يدين).
[82] بل هو من مجزوء الكامل، والشعر في وفيات الأعيان:6/326، وفي الأغاني:3/287. وجاء في غير (ن): (يا واحد العرب).
[83] اسم ابن المولى: محمد بن عبد الله بن مسلم، ترجمته في الأغاني:3/283.
[84] في (ن): (عقد أميرهم).
[85] في غير (ن): (أخته).
[86] في غير (ن): (أي أمير).
[87] في غير (ن): (خيصاً).
[88] 6/278 وما بعدها.
[89] تاريخ خليفة:1/166.