غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

علي بن عبد الله بن جعفر

          945 # عليُّ بن عبد الله بن جعفر، أبو الحسن، المشهور بابن المدينيِّ _بزيادة مثنَّاة تحتيَّة بين المهملة والنُّون_ السَّعديُّ مولاهم، البصريُّ.
          ثقة، ثبت، إمام، أعلم أهل عصره بالحديث وعلله؛ حتَّى قال البخاريُّ: ما استصغرت نفسي عند أحد إلَّا عنده. قال السُّبكيُّ في طبقاته الكبرى(1) : هو أحد أئمَّة الحديث، ورفعائهم، ومن انعقد الإجماع على جلالته وإمامته، وله التَّصانيف الحسان.
          ولد سنة إحدى وستِّين ومئة.
          روى عنه: البخاريُّ، وأبو داود، وأحمد بن حنبل، ومحمَّد بن يحيى الذُّهليُّ، وإسماعيل القاضي، وصالح جزرة، وأبو خليفة(2) ، الجمحيُّ، وأبو يَعْلَى الموصليُّ، وعبد الله البغويُّ، وخلق، آخرهم موتاً عبد الله بن محمَّد بن أيُّوب، وأقدمهم موتاً شيخه سفيان بن عيينة، قال الخطيب: وبين وفاتيهما مئة وثمان وعشرون سنة.
          قال أبو حاتم: كان ابن المدينيِّ عَلَماً في النَّاس في معرفة الحديث والعلل، وما سمعت الإمام (أحمد) سمَّاه قطُّ، ولكن يكنِّيه تبجيلاً له. قال ابن عيينة: يلومونني على حبِّ ابن المدينيِّ، والله لَمَا أتعلَّم منه أكثر ممَّا يتعلَّم منِّي، ولولا ابن المدينيِّ لما جلست. يعني لإلقاء الحديث، وكان يسمِّيه حيَّة الوادي، وإذا قام من مجلس سفيان كان يقول: إذا قامت الخيَّالة لم تجلس مع الرَّجَّالة. ويقوم من مجلسه.
          قال الأعين: رأيت عليَّ بن المديني مستلقياً، والإمام أحمد عن يمينه، ويحيى بن معين عن يساره، وهو يملي عليهما.
          قال ابن الأثير: كان / ابن المدينيِّ آية من آيات الله في معرفة الحديث وعلله.
          قال الكلاباذيُّ(3) : سمع ابنُ المدينيُّ ابن عيينة، ويحيى القطَّان، ومروان بن معاوية، ومعن بن عيسى، وجرير بن عبد الحميد، ويزيد بن زريع، ويزيد بن هارون.
          روى عنه البخاريُّ من غير واسطة في مواضع، أوَّلها: في باب الفهم في العلم، من كتاب العلم [خ¦72] .
          قال عبد الرَّحمن بن مهديٍّ: عليُّ بن المدينيِّ أعلم النَّاس بحديث رسول الله صلعم، وخاصَّة بحديث ابن عيينة.
          قال أبو قدامة السَّرخسيُّ: سمعت عليَّ بن المدينيِّ يقول: رأيت فيما يرى النَّائم، كأنَّ الثريَّا(4) نزلت حتَّى تناولتها. قال: فصدَّق الله رؤياه، بلغ في الحديث مبلغاً لم يبلغه كثير أحد.
          قال النَّسائيُّ: كأنَّ الله خلق ابن المدينيِّ لهذا الشَّأن.
          قال صاعقة: كان ابن المدينيِّ إذا نزل بغداد وتصدَّر للحلقة، وجاء يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، والنَّاس يتناظرون، فإذا اختلفوا في شيء تكلَّم فيه ابن المدينيِّ.
          قال السِّرَّاج: قلت للبخاريِّ: ما تشتهي؟ قال: أن أقدم العراق، وابن المدينيِّ حيٌّ، فأجالسه. قيل لأبي داود: أحمد أعلم أم ابن المدينيِّ؟ قال: ابن المدينيِّ أعلم باختلاف الحديث من أحمد.
          قال أبو عبيد: انتهى العلم إلى أربعة: أبو بكر بن أبي شيبة أسردُهم له، وأحمد بن حنبل أفقههم فيه، وعليِّ بن المدينيِّ أعلمهم به، ويحيى بن معين أكتبهم له.
          قال السُّبكيُّ: كان ابن المدينيِّ ممَّن أجاب إلى القول بخلق القرآن أيَّام المحنة، فنقم عليه، وزيد عليه في القول، والصَّحيح عندنا أنَّه إنَّما أجاب خشية السَّيف.
          قال أبو يوسف القُلُوسِيُّ: قلت لابن المدينيِّ: مثلك في علمك يجيب إلى ما أجبت إليه! فقال: يا أبا يوسف! ما أهون عليك السَّيف! خفت أن أقتل، ولو ضربت سوطاً واحداً لمتُّ.
          قال تاج الدِّين السُّبكيُّ: وما حكي من أنَّ ابن المدينيِّ علل حديث الرُّؤية بسؤال القاضي أحمد بن أبي دؤاد، وقوله له: هذه حاجة الدَّهر. وأنَّه قال: في سنده من لا يعوَّل عليه، وهو قيس بن أبي حازم؛ إنَّما كان أعرابيًّا بوَّالاً على عقبيه. وأنَّ ابن أبي دؤاد قال للإمام أحمد: تحتجُّ علينا بحديث جرير في الرُّؤية، وإنَّما هو من رواية قيس بن أبي حازم، أعرابيٍّ بوَّال على عقبيه. فقال ابن حنبل: علمت أنَّ هذا من عمل ابن المدينيِّ. قال السُّبكيُّ: فهو أثر لا يصحُّ، وقال أبو بكر الخطيب: هذا باطل، قد نزَّه الله ابن المدينيِّ عن ذلك القول في قيس، وليس في التَّابعين من أدرك العشرة المبشَّرة، وروى عنهم غيره، ولم يَحْكِ أحد ممَّن ساق محنة الإمام أحمد أنَّه نوظر في حديث الرُّؤية. وقال أبو العيناء: دخل ابن المدينيِّ إلى أحمد بن أبي دؤاد بعد محنة الإمام أحمد، فناوله رقعة، وقال: هذه طرحت في داري، فإذا فيها أبيات _من البحر الكامل(5)_:
يا ابنَ المَدِيْنِيِّ الذي شُرعت له                     دنيا فجاد بدينه لينالَها
ماذا دعاك إلى اعتقادِ مقالةٍ                     قد كان عندَك كافرٌ مَنْ قالَها /
أَمْرٌ بَدَا لَكَ(6) رُشْدُه فقبلتَه                     أم زهرة الدُّنيا أردتَ نوالَها
فلقد عهدتُك لا أبا لك مرَّةً                     صعبَ الإجابة للتي تُدْعَى لها
إنَّ الحزين لَمَنْ يُصاب بدينه                     لا مَنْ أُصيب بناقةٍ وفِصَالِها
          فقال له ابن المدينيِّ: لقد قمتَ وقمنا من حقِّ الله بما يصغر قدر الدُّنيا عند كثيرِ ثوابه. ثمَّ وصله بخمسة آلاف درهم.
          قال محمَّد بن عثمان بن أبي شيبة: سمعت ابن المدينيِّ يقول _قبل موته بشهرين_: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق. فهو كافر.
          فائدة:
          قال ابن المدينيِّ: دخلت على أمير المؤمنين، فقال: أتعرف حديثاً مسنداً فيمن سبَّ النَّبيَّ صلعم فيقتل؟ قلت: نعم. فذكرت له حديث عبد الرَّزاق، عن مَعْمَرٍ، عنِ سِمَاك، عن عروة بن محمَّد، عن رجل من بَلْقَيْن، قال: كان رجل يشتم النَّبيَّ صلعم، فقال صلعم: «من يكفيني عدواً لي»؟ فقال خالد بن الوليد: أنا. فبعثه صلعم، فقتله، فقال أمير المؤمنين: ليس(7) هذا مسنداً، هو عن رجل. فقلت: يا أمير المؤمنين، هكذا يعرف هذا الرَّجل، وهو اسمه، وقد أتى النَّبيَّ صلعم فبايعه، وهو مشهور معروف، فأمر لي بألف دينار.
          قال ابن حزم: هو حديث مسند صحيح. قال السُّبكيُّ(8) : لا يريد ابن المدينيِّ بقوله: هو اسم، (إنَّ اسم هذا) الرَّجل المجهول، رجل من بلقين، وإنَّ هذا اللَّفظ عَلَمٌ عليه، وإنَّما يريد أنَّه بذلك يُعرف، لا يعرف له اسم علم، بل إنَّما يعرف بقبيلته، وهي القين، فيقال: رجل من بني القين. قال: ويدلُّ عليه _مع وضوحه_ قوله: هكذا يعرف هذا الرَّجل. وقوله: قد أتى النَّبيَّ صلعم فبايعه. جواب سؤال مقدر، تقديره: إذا كان مجهولاً، فكيف يحتجُّ به؟ فأجاب بأنَّ(9) جهالة العين والاسم مع العلم بأنَّه صحابيٌّ، لا يقدح في الرِّواية والسَّند(10) ؛ لأنَّ الصَّحابة كلُّهم عدول، وهذا الرَّجل، كما ذكر ابن المدينيِّ لا يعرف له اسم، وقد روى البيهقيُّ هذا الحديث في سننه(11) ، من حديث معمر هكذا، وهو إسناد صحيح.
          تتمَّة:
          قال عبد الله بن عليِّ بن المدينيِّ: سمعت أبي يقول: أربعة أحاديث لا أصل لها عن رسول الله صلعم حديث: لو صدق السَّائل لا أفلح من يردُّه. وحديث: لا وجع إلَّا وجع العين، ولا غمَّ إلَّا غمَّ الدَّين. وحديث: إنَّ الشَّمس ردَّت إلى عليِّ بن أبي طالب. وحديث: أفطر الحاجم والمحجوم؛ إنَّهما كانا يغتابان.
          قال تاج الدِّين(12) : هو نظير قول الإمام أحمد: أربعة أحاديث لا أصل لها، حديث: من آذى ذميًّا، فكأنَّما آذاني. وحديث: من بشَّرني بخروج آذار ضمنت له على الله الجنَّة. وحديث: للسَّائل حقٌّ، ولو جاء على فرس. وحديث: يوم صومكم يوم نحركم، (ونحركم) يوم رأس سنتكم.
          توفِّي ابن المدينيِّ ليومين بقيا من ذي القعدة، سنة أربع وثلاثين ومئتين.


[1] 2/109.
[2] في الأصول (أبو حذيفة) وجاء في غير (ن): (أبو يحيى) بدل (أبو يعلى) وهو تصحيف، والتصحيح من تهذيب الكمال:21/8، ومصادر الترجمة.
[3] الهداية والإرشاد:2/531.
[4] في غير (ن): (الدنيا).
[5] الأبيات في طبقات الشافعية الكبرى للسبكي:2/148، وفي تهذيب الكمال للمزي:21/28 والرواية عندهما: صعب المقادة، إن الحريب، لا من يرزَّى ناقةً وفصالَها. والحريب الذي سلب جميع ماله (اللسان: حرب).
[6] في (ن) تصحيفاً: (بذلك).
[7] في (ن) تصحيفاً: (أليس).
[8] طبقات الشافعية الكبر:2/149.
[9] في غير (ن): (أن).
[10] في (ن) تصحيفاً: (واسند).
[11] السنن الكبرى للبيهقي برقم (17316)، ولفظه: أن امرأة سبت النبي صلعم فقتلها خالد بن الوليد.
[12] طبقات الشافعية الكبرى:2/150.