غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

عبد الله بن عمر بن الخطاب

          701 # عبدُ الله بنُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، الصَّحابيُّ، القرشيُّ، العدويُّ، المدنيُّ، وأمُّه زينُب بنتُ مَظْعُونٍ بن حَبيب، وهي أمُّ أخته حفصة.
          أسلم مع أبيه بمكَّة وهو صغير.
          سمع النَّبيَّ صلعم، وروى عنه ألفي حديث، وستَّ مئة حديث، وثلاثين حديثاً، للإمام البخاريِّ منها مئتان وأحد وخمسون حديثاً. قاله الكرمانيُّ(1) ، وقال ابن حجر(2) : مائتان وسبعون حديثاً. وروى أيضاً عن: أبي بكر، وعمر، وسعد بن أبي وقَّاص، وبلال، وعامر بن ربيعة، وزيد بن ثابت، وأبي سعيد الخدريِّ.
          وروى عنه: سعيد بن المسيَّب، وأبو سلمة، ومجاهد، وعروة بن الزُّبير، وعمرو بن دينار، وسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عبَّاس، وعكرمة بن خالد، وعبد الله بن دينار، وبنوه عبيد الله، وعبد الله، وحمزة، وسالم، ونافع، وزيد.
          نقل عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: في أوَّل كتاب الإيمان [خ¦8] .
          وهو (أحد) السِّتَّة الذي هم أكثر الصَّحابة رواية: عائشة، وأبو هريرة، وعبد الله بن عبَّاس، وجابر بن عبد الله، وأنس.
          قال البخاريُّ: أصحُّ الأسانيد: مالك، عن نافع، عن ابن عمر. قال غيره: فإن زاد، فالشَّافعيُّ، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، فإن زاد، فأحمد بن حنبل، عن الشَّافعيِّ، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر. وقيل: أصحُّ الأسانيد غير هذا. ثمَّ اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً، والأصحُّ المعتمد _كما قال العراقيُّ(3) في أوَّل ألفيَّته_ أنَّه(4) لا يحكم على سند بعينه أنَّه الأصحُّ.
          قال جابر بن عبد الله: لم يكن أحد ألزم لطريق النَّبيِّ صلعم ولا أتبع من ابن عمر، وكان كثير الصَّدقة، / فربَّما تصدَّق في المجلس الواحد بثلاثين ألفاً، وقلَّ(5) نظيره في المتابعة لرسول الله صلعم، وإعراضه عن الدُّنيا ومقاصدها، والتَّطلُّع إلى رئاسة أو غيرها، وأدلُّ(6) دليل على عظم مرتبته شهادة رسول الله صلعم بقوله: «إنَّ عبد الله رجل صالح».
          قال الزُّهريُّ: لا يعدل برأي ابن عمر؛ فإنَّه أقام بعد رسول الله صلعم ستِّين سنة، فلم يَخْفَ عليه(7) شيء من أمره، ولا من أمر الصَّحابة، ولم يقاتل في الحروب التي جرت بين المسلمين، وكان يقول: ما أجدني(8) آسى على شيء فاتني من الدُّنيا إلَّا أنِّي لم أقاتل مع عليٍّ الفئة الباغية.
          وقيل: إنَّه أسلم قبل والده، وأجمعوا على أنَّه لم يشهد بدراً؛ لصغره، واختلفوا في شهوده أُحُداً، فقيل: شهدها. وقيل: ردَّه رسول الله صلعم فيمن ردَّه ممَّن لم يبلغ الحلم. والصَّحيح أنَّ أوَّل مشاهده الخندق _كما قاله ابن الأثير(9)_ وشهد غزوة مؤتة، واليرموك، وفتح مصر، وإفريقية، وكان كثير الاتِّباع [لآثار] رسول الله صلعم حتَّى إنَّه كان ينزل منازله، ويصلِّي في كلِّ مكان صلَّى فيه؛ حتَّى إنَّه نزل تحت شجرة، فكان ابن عمر يتعاهدها ويسقيها لئلَّا تيبس.
          قال ابن عمر: رأيت في المنام كأنَّما بيدي قطعة إستبرق، ولا أشير بها إلى موضع من الجنَّة إلَّا طارت بي إليه، فقصصتها على حفصة، فقصَّتها حفصة على النَّبيِّ صلعم، فقال: «إنَّ أخاك رجل صالح».(10) عن نافع قال: خرج ابن عمر في بعض نواحي المدينة، ومعه أصحاب له، فوضعوا السُّفرة، فمرَّ بهم راعي غنم، فسلَّم، فقال ابن عمر: هلمَّ، فأصب من هذه السُّفرة. فقال: إنِّي صائم. فقال: أتصوم في مثل هذا اليوم الشَّديد الحرِّ، وأنت في هذه الحالة ترعى الغنم؟ فقال: والله إنِّي أبادر أيَّامي هذه الخالية. فقال [له] ابن عمر _وهو يريد أن يختبر ورعه_: فهل لك أن تبيعنا شاة من غنمك هذه، ونعطيك ثمنها، ونعطيك من لحمها ما تفطر عليه؟ فقال: إنَّها ليست لي، إنَّها لسيِّدي. فقال ابن عمر: فما يفعل سيِّدك إذا فقدها؟ فولَّى الرَّاعي، وهو رافع أصبعه إلى السَّماء، وهو يقول: أين الله، أين الله، (أين الله)؟ قال: فجعل ابن عمر يردِّد قول الرَّاعي، يقول: فأين الله، فأين الله؟ فلمَّا قدم المدينة بعث إلى مولاه، فاشترى منه الغنم والرَّاعي، فأعتق الرَّاعي، ووهب منه الغنم.
          ومن طواعيته لله أنَّه كانت له جارية يحبِّها محبَّة شديدة، فأعتقها، فتزوَّجت بغيره، وولدت، فرئي ابن عمر وهو يقبِّل ولدها، فقيل له في ذلك، فقال: لفرط حبِّي لأمِّها. فقيل: أليست كانت جاريتك، فلم أعتقتها؟ قال: لمَّا سمعت الله تعالى يقول: { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران:92] / فكانت أحبَّ شيء إليَّ، فأعتقتها لله. وهكذا كانت شيمته إذا أعجبه شيء جعله لله تعالى.
          قال نافع: بينا ابن عمر على نجيب له حسن المشي، فإذا به نزل، فقال: يا نافع، أجلله وأدخله في بُدْنِ الصَّدقة. فقلت له: لم؟ قال: لأنَّه أعجبني حُسْنُ سَيْرِه وسيرته.
          قال مالك: كان ابن عمر من أئمَّة النَّاس. قال مجاهد: كان ابن عمر شديد الاحتياط والتَّوقِّي لدينه في الفتوى، وكلِّ ما تأخذ به نفسه؛ حتَّى إنَّه ترك المنازعة في الخلافة، مع كثرة ميل أهل الشَّام إليه ومحبَّتهم له، وقال جابر: ما منَّا إلَّا من مالت به الدُّنيا ومال إليها، ما خلا عمر وابنه عبد الله، وقام مروان بن الحكم ليبايع له بالخلافة، وقال له: إنَّ أهل الشَّام يريدونك. قال: فكيف أصنع بأهل العراق؟ فقال: نقاتلهم. فقال: والله لو أطاعني النَّاس كلُّهم إلَّا أهل فَدَك، وإن قاتلتهم يقتل منهم رجل واحد لم أفعل. فتركه.
          وقال نافع: دخل ابن عمر الكعبة، فسمعته يقول: _وهو ساجد_ قد تعلم يا ربُّ، ما يمنعني من مزاحمة قريش على الدُّنيا إلَّا خوفك. وقال: كان ابن عمر إذا قرأ هذه الآية { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ } [الحديد:16] بكى حتَّى يغالبه(11) البكاء. وكان يقول: البرُّ شيء هيِّن، وجه طلق، وكلام ليِّن. وكان يكثر الحجَّ، حجَّ ستِّين حجَّة، واعتمر ألف عمرة، وكان لا ينام من اللَّيل إلَّا قليلاً، وكان أفقه أهل زمانه بالمناسك، أفتى النَّاس ستِّين سنة، وكان كثير البرِّ والخير، أعتق ألف رأس، وحبس ألف فرس، وكان من أكرم أهل زمانه.
          قال ميمون بن مهران: أتت ابن عمر اثنان وعشرون ألف دينار في مجلس، فلم يقم حتَّى فرقها.
          قال نافع: إذا اشتدَّ عجبه بشيء من ماله قرَّبه لرَّبه(12) ، وكان عبيده قد عرفوا ذلك منه، فربَّما لزم أحدهم المسجد، فإذا رآه ابن عمر على تلك الحالة الحسناء أعتقه، فيقول له أصحابه: يا أبا عبد الرَّحمن، والله ما بهم إلَّا أن يخدعوك. فيقول ابن عمر: من خدعنا لله تعالى انخدعنا له.
          قال ابن عمر، ورفعه: «كلُّ مسكر خمر، وكلُّ مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدُّنيا ومات وهو يدمنها لم يشرب منها في الآخرة»(13) .
          وقال: أخذ النَّبيُّ صلعم يوماً ببعض جسدي، وقال: «يا عبد الله، كن في الدُّنيا كأنَّك غريب، أو كأنَّك عابر سبيل، وعُدَّ نفسك في أهل القبور» (ثمَّ) قال: «يا عبد الله بن عمر، فإنَّه ليس ثَمَّ دينار، ولا درهم، إنَّما هي حسنات وسيِّئات، جزاء بجزاء، وقصاص بقصاص، ولا تتبرَّأ من ولدك في الدُّنيا، / فيتبرَّأ الله منك في الآخرة، فيفضحك على رؤوس الأشهاد، ومن جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة».
          وهو ☺معدود في قتلة الحجَّاج بن يوسف، عليه ما يستحقُّ؛ وسببه _كما قال ابن الأثير(14)_ أنَّ الحجَّاج أمر رجلاً فَسَمَّ زُجَّ رُمْحٍ وزحمه في الطَّريق، ووضع الزج في ظهر قدمه؛ وإنَّما فعل الحجَّاج ذلك لأنَّه خطب يوماً وأخَّر الصَّلاة، فقال عبد الله: إنَّ الشَّمس لا تنتظرك. فقال الحجَّاج: لقد هممت أن أضرب الذي فيه عيناك. قال: إن تفعل فإنَّك سفيه مسلط. وقيل: إنَّ الحجَّاج حجَّ مع ابن عمر، وأمره عبد الملك بن مروان أن يقتدي بابن عمر، وكان ابن عمر يتقدَّم الحجَّاج في المواقف بعرفة وغيرها، فكان ذلك يشقُّ(15) على الحجَّاج، فأمر رجلاً معه حربة مسمومة، فلصق بابن عمر عند دفع النَّاس، فوضع الحربة على ظهر قدمه، فمرض منها أيَّاماً، فأتاه الحجَّاج يعوده، فقال: من فعل بك؟ قال: وما تصنع؟ قال: قتلني الله إن لم أقتله. قال: ما أراك فاعلاً، أنت أمرت الذي نخسني بالحربة. فقال: لا تفعل يا أبا(16) عبد الرَّحمن. وخرج عنه، فلبث أيَّاماً، ومات ☺، وعن أبيه، وصلَّى عليه الحجَّاج، ودفن بالمحصَّب، أو بفَخٍّ(17) ، أو بذي طُوَى، أو بسَرِف، واختلف في عمره، قيل: أربع وسبعون، أو أربع وثمانون، أو ستٌّ وثمانون. كما اختلفوا في ولادته قبل المبعث لسنة، أو في المبعث، أو بعده لسنتين، وتوفِّي ☺ بعد ابن الزُّبير بثلاثة أشهر سنة، ثلاث وسبعين.


[1] شرح البخاري:1/74، وفيه: وروى عنه ألف حديث.
[2] مقدمة الفتح: ص475.
[3] التبصرة والتذكرة:1/16 دار الباز، مكة المكرمة.
[4] في غير (ن): (أنْ).
[5] في (ن) تصحيفاً: (وقيل).
[6] في غير (ن): (وأول) وجاء في (ن) (مذهبه) بدل (مرتبته).
[7] في غير (ن): (عنه).
[8] في غير (ن): (ما تجدني) وفي (ن) تصحيفاً: (أتسى).
[9] أسد الغابة:3/336، وفيه ترجمته.
[10] الترمذي برقم (3825) وقال: حسن صحيح.
[11] في (ن): (غلبه).
[12] في غير (ن): (إلى ربه).
[13] مسند أحمد برقم (5730).
[14] أسد الغابة:3/336.
[15] في غير (ن): (فكأن ذلك شق).
[16] في (ن): (يابا).
[17] ضبطها الكرماني في شرح البخاري:1/75: بالفاء والخاء المعجمة، قلت: وهو مكان قرب مكة، فيه مقبرة للمهاجرين، وقال الزبيدي في التاج (فخخ): وهو _فيما قيل_ وادي الزاهر، دفن به أورع الصحابة، وأشدهم اتباعاً للنبي صلعم واقتفاء لآثاره عبد الله بن عمر ☻، وجاء في أصولنا: أربع وتسعون، وهو تصحيف، ولم يقل به أحد، والمثبت من المصادر الترجمة.