غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

عامر بن شراحيل

          602 # عَامِرُ بنُ شَرَاحِيْلَ _بفتح المعجمة، والرَّاء، وكسر المهملة، بعدها مثنَّاة تحتيَّة، آخرها لام_ بن عبد، وقيل: ابن عبد الله. وقيل: عامر بن عبد الله بن شراحيل. والأوَّل أصحُّ. هو أبو عَمْرو، الكوفيُّ، التَّابعيُّ، الشَّعْبِيُّ، بفتح المعجمة، وسكون المهملة، آخرها موحَّدة، وهو من حِمْيَرَ، وعداده في هَمْدَانَ.
          جليل القدر، وافر العلم، ثقة مشهور، فقيه، فاضل. قال مكحول: ما رأيت أفقه منه، ومرَّ به ابن عمر [مرَّة] وهو يحدِّث بالمغازي، فقال: شهدتُ القوم، وهو أعلم بها منِّي. قال الزُّهريُّ: العلماء أربعة: ابن المسيَّب بالمدينة، والشَّعبيُّ بالكوفة، والحسنُ البصريُّ بالبصرة، ومكحولٌ بالشَّام.
          أدرك خمسمئة من الصَّحابة. ولد سنة ستٍّ من خلافة عثمان، وقيل: سنة عشرين من الهجرة. وروي أنَّه قال: ولدت سنة جَلُولاء _بفتح الجيم، وضمِّ اللَّام [الأولى]_ اسم قرية بناحية فارس، كانت بها وقعة شهيرة زمن الصَّحابة(1) ، سنة تسع عشرة، وقال: ما كتبت سواداً في بياض قطُّ، ولا حدَّثني أحد بحديث فأحببت أن يعيده عليَّ، ولا حدَّثني رجل بحديث إلَّا حفظته.
          قال ابن عيينة: كان الشَّعبيُّ أكبر النَّاس في زمانه، وكان ضئيلاً، يعني نحيفاً، فقيل له: ما لنا نراك نحيفاً؟ قال: إني زوحمت في البطن؛ وذلك لأنَّه أحد التَّوأمين، ولد هو وأخ له في بطن واحد، وكان كاتبَ عبد الله بن مُطيع العدويِّ أمير الجيش(2) يوم الحَرَّة.
          سئل أحمد بن حنبل، هل ذُكِر(3) الشَّعبيُّ بشيء؟ فقال: ذاكرتُ غندراً به، فقال: قال شعبة: إنه كان مَزَّاحاً.
          حُكي أنَّه قال لخيَّاط مرَّ به: عندنا حُبٌّ مكسور تخيطه؟ فقال الخيَّاط: إن كان عندك خيوط من الرِّيح. ودخل عليه رجل في البيت ومعه امرأته، فقال: أيُّكما الشَّعبيُّ؟ فقال الشَّعبيُّ: هذه. وأشار إلى زوجته.
          قال الشعبي: أنفذَني عبد الملك بن مروان إلى ملك الرُّوم في بعض أموره، فلمَّا وصلت إليه جعل لا يسألني عن شيء إلا أجبته، وكانت / الرُّسل لا تطيل الإقامة عنده، فحبسني أيَّاماً كثيرة، حتَّى استحببت خروجي، فلمَّا أردت الانصراف قال لي: من أهل بيت المملكة أنت؟ قلت: لا، ولكنِّي رجل من العرب في الجملة. فهمس بشيء، ودفع لي رقعة، وقال: إذا أدَّيت الرِّسالة إلى صاحبك، فأوصل إليه هذه الرُّقعة، فأدَّيت الرِّسالة عند وصولي عبد الملك، وأنسيت الرُّقعة، فلمَّا صرت في بعض الدَّار أريد الخروج تذكَّرتها، فرجعت، فأوصلتها إليه، فلمَّا قرأها قال لي: أقال لك شيئاً قبل أن يدفعها إليك؟ قلت: نعم، قال: من أهل بيت المملكة أنت؟ قلت: لا، ولكن من العرب في الجملة. ثمَّ خرجت من عنده، فلمَّا بلغت الباب رُددت، فلمَّا امتثلت بين يديه قال (لي): أتدري ما في الرُّقعة؟ قلت: لا. قال: اقرأها. فقرأتها، فإذا فيها: عجب من قوم فيهم مثل هذا كيف ملَّكوا غيره؟ فقلت له: والله لو علمت ما فيها ما حملتها، وإنَّما قال هذا لأنَّه لم يرك. قال: أفتدري لم كتبها؟ قلت: لا. قال: حسدني عليك، وأراد أن يغريني بقتلك. قال: فبلغ ذلك ملك الرُّوم، فقال: ما أردت إلَّا ذلك.
          قال ابن خلِّكان(4) : أحضر الشَّعبيُّ بين يدي الحجَّاج _وكان قد خرج مع [محمَّد] ابن الأشعث_ فسلَّم على الحجَّاج بالإِمْرة، ثمَّ قال له: أيُّها الأمير، إنَّ النَّاس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنَّه الحقُّ، وأيم الله، لا أقول في هذا المقام إلَّا حقًّا: قد والله خرجنا عليك، واجتهدنا كلَّ الجهد، فما ألونا، فما كنَّا بالفَجَرةِ(5) الأقوياء، ولا بالبررة الأتقياء، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا، وما جرَّتْ إلينا أيدينا(6) ، وإن عفوت عنَّا، فبحلمك، وبعد الحجَّة [لك] علينا. فقال الحجَّاج: أنت والله أحبُّ إليَّ ممَّن يدخل عليَّ وسيفه يقطر من دمائنا، ثمَّ يقول: ما فعلت وما شهدت. ثمَّ قال: أمنت عندنا يا شعبيُّ، فانصرف.
          وقال حجَّة الإسلام الغزاليُّ في إحيائه(7) : دعا عمر بن هُبيرة بفقهاء البصرة والكوفة والمدينة والشَّام وقرَّائها، فجعل يسألهم، وكلَّم الشَّعبيَّ، فما سأل عن شيء إلَّا وجد عنده علماً فيه، ثَّم أقبل على الحسن البصريِّ يسأله، فقال: هما [هذان] ، هذا رجل أهل الكوفة _يعني عامر الشَّعبيَّ_ وهذا رجل أهل البصرة. يعني الحسن (البصريِّ)، وأمر الحاجب، فأخرج الناس، وخلا بالشَّعبيِّ والحسن، وأقبل على الشَّعبيِّ، فقال: يا أبا(8) عمرو، إنِّي عامل أمير المؤمنين على العراق، وابتليت بالرَّعية، ولزمني حقُّهم، وأحبُّ حفظهم مع النَّصيحة لهم، وقد بلغني عن العصابة ما يحملني على الأخذ عليهم، وقَبْضِ بعض / عطائهم، ووَضْعِه في بيت المال، ومن نيَّتي أن أردَّ عليهم، فيبلغ(9) أمير المؤمنين ذلك، فيكتب إليَّ أن لا تردَّه، فلا أستطيع ردَّ أمره، فإنِّي مأمور علي الطَّاعة(10) ، فهل (عليَّ) في هذا تبعة، وفي أشباهه من الأمور، والنِّيَّة فيها ما ذكرت؟ قال الشَّعبيُّ: فقلت: أصلح الله الأمير، إنَّما السُّلطان والد، يخطئ ويصيب. فسرَّ بقولي، وأعجب به، ورأيت البِشْرَ في وجهه، وقال: فلله الحمد. ثمَّ أقبل على الحسن، فقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ قال: سمعت قول الأمير: إنَّه أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله، فاعلم أنَّ حقَّ الرَّعيَّة لازم لك، وعليك أن تحوطهم بالنَّصيحة، فإنِّي سمعت عبد الرَّحمن بن سَمُرَةَ يقول: سمعت رسول الله صلعم: «من استرعى رعيَّة فلم يَحُطْهَا بالنَّصيحة حَرَّمَ الله عليه الجنَّة». ويقال: إنَّما قبضت من عطاياهم إرادة إصلاحهم، إلى آخر كلامك، فاعلم أنَّ حقَّ الله ألزم من حقِّ أمير المؤمنين، والله أحقُّ أن يطاع، ولا طاعة في معصية الله، فاعرضْ كتاب أمير المؤمنين على كتاب الله، فإن وجدته موافقاً لكتاب الله فخذ به، وإلَّا فانبذه، يا ابن هُبيرةَ، اَّتق الله، فإنَّه يوشك أن يأتيك رسول ربِّ العالمين، يزيلك عن سريرك، ويخرجك من قصرك، إلى ضيق قبرك، فتدع سلطانك ودنياك خلف ظهرك، وتقدم على ربِّك، يا ابن هبيرة، إنَّ الله يمنعك من يزيد، ويزيد لا يمنعك من الله، أمر الله فوق كلِّ أمر، وإنِّي لأحذرِّك بأس الله الذي لا يردُّه(11) عن القوم المجرمين. فقال ابن هبيرة: ارْبَعْ على ظَلْعِكَ(12) أيُّها الشَّيخ، وأعرض عن ذكر أمير المؤمنين، صاحبِ العلم والحلم والفضل، وإنَّما وَلاَّه الله تعالى أمر هذه الأمة لعلمه به وبفضله [ونيَّته] . فقال الحسن: يا ابن هبيرة، الحساب من ورائك، سوطٌ بسوط، وغضبٌ بغضب، واللَّهُ بالمرصاد، يا ابن هبيرة، إنَّك إن تَلْقَ من ينصح لك في دينك، ويحملك على أمر آخرتك، خير من أن تلقى رجلاً يُمَنِّيك. فقام ابن هبيرة قد بَسَرَ وجهُه، وتغيَّر لونه. قال الشَّعبيُّ: فقلت: يا أبا سعيد، قد أغضبت الرَّجل، وحرمتنا(13) معروفه وصلته، رحمة الله عليك. قال الحسن: إليك عنِّي يا عامر(14) . قال: فخرجَتْ إلى الحسن التُّحَفُ والظُّرَفُ، وكانت له المنزلة، واستخفَّ بنا، وكان أهلاً لما أدَّى إليه، وكنَّا أهلاً لأن يفعل بنا ذلك، فما رأيت مثل الحسن فيمن(15) رأيت من العلماء، وما مثَلَه بين العلماء إلَّا مثل الفرس العربيِّ بين المقاريف، وما شهدنا مشهداً [مشهداً] إلَّا برز علينا. قال الشَّعبيُّ: وأنا عاهدت الله تعالى أنِّي لا أشهد سلطاناً بعد هذا المجلس فأحابيه. انتهى.
          وقد مرَّ في ترجمة الحسن / نحو من هذا، فراجعها.
          قال الطَّبريُّ: دخل رجل على الشَّعبيُّ وهو قاض، ومعه امرأته _وكانت جميلة_ فاختصما، فظهرت المرأة بحجُّتها، فقال لزوجها: هل لك من مدفع؟ فقال الرَّجل _من البحر(16) الرَّمل_:
فُتِنَ الشَّعبيُّ لَمَّا                     رَفَعَ الطَّرْفَ إليْهَا
فَتَنَتْهُ بدَلاَلٍ                     وبخَطَّيْ حَاجِبَيْهَا
كيفَ لو أَبْصَرَ مِنْها                     نَحْرَهَا أو سَاعِدَيْهَا
لَصَبَا حتَى تَرَاهُ                     ساجداَ بينَ يَدَيْهَا
قال للجلِوْازِ قَرِّبْ                     هَا وأَحْضِرْ شاهِدَيْها
فقضَىَ جَوْرَاً على الخَصْـ                     ـمِ ولَمْ يَقْضِ عَلَيْهَا
          فأمر بضرب الرَّجل وتأديبه، والجِلْواز(17) ، بكسر الجيم، وسكون اللَّام، بعد الواو ألف، آخره زاي معجمة: اسم لأعوان (الحكام)، وكان قاضياً لعمر بن عبد العزيز على الكوفة، ولمن قبله، وكان يقول: أقلُّ شيء أرويه هو الشِّعر، ولو أنشدتكم شهراً لما أعدت(18) ، ولقد تمنَّيت أن أفلت [من علمي] كفافاً، لا عليَّ ولا لي.
          قال الكلاباذيُّ(19) : سمع الشَّعبيُّ جابر بن عبد الله، وابن عبَّاس، وعَدِيَّ بن حاتم، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والبراء بن عازب، وأبا هريرة، وأبا جُحيفة، والنُّعمانَ بنَ بَشير، وعُروة بن المغيرة بن شعبة. روى(20) عنه إسماعيل بن أبي خالد، وعاصم الأحول، ومنصور، والأعمش، وبيان بن بشر، وابن عون، وزُبَيْد، ومطرِّف، وفراس، وزكريَّا بن أبي زائدة، وعبد الله بن أبي السَّفر. نقل عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: في باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، من كتاب الإيمان [خ¦10] .
          توفِّي سنة بضع ومئة، عن بضع وسبعين، أو ثمانين سنة.
          فائدة:
          الشَّعْبِيُّ، بفتح المعجمة، وسكون المهملة، بعدها الموحَّدة: نسبة إلى جبل باليمن(21) ، نزله حسَّان بن عمرو الحِمْيَرِيُّ، هو وولده(22) ، ودفن به، فمن كان منهم بالكوفة قيل لهم: شعبيُّون. ومن بمصر منهم، (وكذا المغرب قيل لهم: الأشعوب. ومن بالشَّام منهم فشعبانيُّون، ومن باليمن) يقال لهم: آل ذي شَعْبَيْن.


[1] في (ن): (مشهورة من الصحابة).
[2] في غير (ه): (أمير قريش)، والمثبت من (ه).
[3] في غير (ن): (ذاكر).
[4] وفيات الأعيان:2/39.
[5] في الأصول كلها (بالعجزة) ولا يستقيم، والمثبت الوجه وهو يوافق الوفيات.
[6] في غير (ن): (أيدينا إلينا).
[7] 3/378.
[8] في (ن): (يابا).
[9] في غير (ن): (فبلغ).
[10] في غير (ن): (علي بالطاعة).
[11] في غير (ن): (يرد).
[12] في (ن) تصحيفاً: (ارفع على ضلعك).
[13] في (ن): (وأحرمتنا).
[14] في غير (ن): (أي عامر).
[15] في غير (ن): (فيما).
[16] الشعر من مجزوء الرمل، وهو في تاريخ ابن عساكر:25/405- 408، بروايات مختلفة.
[17] في (ن) تصحيفاً: (والجواز) وكذلك تصحفت في بيت الشعر.
[18] في غير (ن): (لو أنشدتكم شعراً لما أعرب).
[19] الهداية والإرشاد:2/557.
[20] في غير (ن): (نقل).
[21] واسم الجبل ذو الشَّعبين، تاريخ دمشق:25/340.
[22] في غير (ن): (ووالده).