غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

عكرمة بن عبد الله

          924 # عكرمة بن عبد الله، مولى عبد الله بن عبَّاس، تابعيٌّ، بربريُّ الأصل.
          ثقة، ثبت، عالم بالتَّفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا ثبت عنه بدعة، هاشميٌّ، مدنيٌّ.
          سمع: ابن عبَّاس، وأبا سعيد، وأبا هريرة، وعبد الله بن عمرو(1) ، وعائشة، [وابن عمر] .
          روى عنه: عمرو بن دينار، وقَتادة، والشَّعبيُّ، وعاصم الأحول، ويحيى بن أبي كثير، وأبو بشر، وأبو إسحاق الشَّيبانيُّ، وأبو الأسود، وأيُّوب، وخالد الحذَّاء، وهشام بن حسَّان، وحُصَيْنُ بن عبد الرَّحمن.
          نقل عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: في باب قول النَّبيِّ صلعم اللهم علِّمه الكتاب، من كتاب العلم [خ¦75] .
          قال الكرمانيُّ(2) : كان عكرمة عبداً(3) للعَنْبَرِيِّ قاضي البصرة، فوهبه لابن عبَّاس حين قدم والياً على البصرة لعليِّ بن أبي طالب، ومات ابن عبَّاس وعكرمة عبد، فباعه عليُّ بن عبد الله بن عبَّاس من خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار، فأتى عكرمة عليًّا، فقال له: ما خير لك، بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار! فاستقاله فأقاله، فأعتقه.
          قال الحارث بن عبد الله: دخلت على عليِّ بن عبد الله، وعكرمة موثق على باب كنيف، / فقلت: أتفعلون كذا بمولاكم؟ قال: إنَّ هذا يكذب على أبي. وهكذا قال ابن خلِّكان(4) أيضاً، (ولكن) روى الحكاية عن عبد الله بن الحارث، لا عن(5) الحارث بن عبد الله.
          قال محمَّد بن سعد: كان عكرمة كثير العلم، بحراً من البحور، ولكن تكلَّم النَّاس فيه؛ وذلك لأنَّه كان يرى رأي الخوارج.
          قال يحيى بن معين: إذا رأيت من يتكلَّم في عكرمة فاتَّهمه على الإسلام. قال البخاريُّ: ليس أحد من أصحابنا إلَّا يحتجُّ(6) بعكرمة.
          وقال (أبو) أحمد ابن عديٍّ: لم تمتنع الأئمَّة من الرِّواية عن عكرمة، وأدخلوا أصحاب الصَّحاح صحاحهم. قال البيهقيُّ: روى له البخاريُّ دون مسلم، وقيل لسعيد بن جبير: هل أحد أعلم منك؟ قال عكرمة.
          قال ابن خلِّكان: كان أحدَ فقهاء مكَّة وتابعيها، كان ينتقل من بلد إلى بلد، كان كثير الجولان والتَّطواف في البلاد، دخل أصبهان وخراسان ومصر والكوفة والبصرة وغيرها.
          عاش ثمانين، أو أربعاً وثمانين سنة. مات هو وكُثَيِّرُ عَزَّةَ الشَّاعر في يوم واحد، سنة خمس ومئة، وصلِّي عليهما جميعاً بعد الظُّهر في موضع الجنائز، فقال النَّاس: مات أفقه النَّاس وأشعر النَّاس. وكان موتهما بالمدينة، وقيل: مات عكرمة بالقيروان. والأوَّل أصحُّ.
          وعِكْرِمَةُ: بكسر المهملة، وسكون الكاف، وكسر الرَّاء، بعد الميم هاء، اسم للحَمَامة الأنثى في الأصل، فنقل، وجعل علماً، وعمارةُ بنُ حمزةَ مولى المنصور أبي جعفر الموصوفُ بالفقه من أولاده، قال الخطيب: هو ابن [ابن] عكرمة.
          قال أبو نعيم الأصفهانيُّ(7) : مفسِّر الآيات المحكمة، ومبيِّن الرِّوايات المبهمة، أبو عبد الله، مولى ابن عبَّاس، عكرمةُ.
          قال ابن حجر(8) : احتجَّ به البخاريُّ وأصحاب السُّنن، لكنَّ مسلماً لم يخرِّج له سوى حديث واحد، في الحجِّ مقروناً بسعيد بن جبير [خ¦2964] ، وإنَّما تركه مسلم لكلام مالكٍ فيه، وقد تعقَّب جماعة من الأئمَّة ذلك، وصنَّفوا في الذَّبِّ عن عكرمة، منهم أبو جعفر بن جرير الطَّبريُّ، ومحمَّد بن نصر المروزيُّ، وأبو عبد الله بن مَنْدَه، وأبو حاتم ابن حِبَّان، وأبو عمر ابن عبد البرِّ، وغيرهم. قال: وقد رأيت أن ألخِّص ما قيل فيه ههنا، فأمَّا أقوال من وَهَّاه فمدارها على ثلاثة أشياء: على رميه بالكذب، وعلى الطَّعن فيه بأنَّه كان يرى رأي الخوارج، وعلى القدح فيه بأنَّه كان يقبل جوائز الأمراء، فأمَّا البدعة إن ثبتت، فلا تضرُّ حديثه؛ لأنَّه لم يكن داعية، مع أنَّها لم تثبت عليه، وأمَّا قبول الجوائز، فلا تقدح فيه أيضاً إلَّا عند أهل التَّشديد، وجمهورُ أهل العلم على الجواز، كما صنَّف في ذلك ابن عبد البرِّ، وأمَّا التَّكذيب، فسنبيِّن وجوه ردِّه بعد حكاية أقوالهم، وأنَّه لا يلزم من شيء منه قدح في روايته، فالوجه الأوَّل فيه أقوال، فاسدها ما روي عن ابن عمر أنَّه قال لنافع: لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عبَّاس. وكذا ما روي عن سعيد بن المسيَّب أنَّه قال لبَرْدٍ مولاه ذلك. قال إسحاق بن عيسى الطَّبَّاع(9) : سألت مالكاً، أبلغك أنَّ ابن عمر قال لنافع: لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عبَّاس؟ قال: لا، ولكن بلغني أنَّ سعيد بن المسيَّب قال ذلك لبَرْدٍ مولاه. وروى / عن يزيد بن أبي زياد أنَّه قال: دخلت على عليِّ بن عبد الله بن عبَّاس، وعكرمة مقيَّد، فقلت: ما هذا؟ قال: إنَّه يكذب على أبي. وسئل ابن سيرين عنه، فقال: ما يسوؤني أن يدخل الجنَّة، ولكنه كذَّاب. وقال عطاء الخراسانيُّ: قلت لسعيد بن المسيَّب: إنَّ عكرمة يزعم أنَّ رسول الله صلعم تزوَّج ميمونة وهو محرم. فقال: كذب. وقال ابن خليفة: قلت لعطاء: إنَّ عكرمة يقول: إنَّ الكتاب سبق الخفَّين. فقال: كذب، سمعت ابن عبَّاس يقول: امسح على الخفِّين، وإن خرجت من الخلاء. وقال عبد الكريم الجزريُّ: قلت لسعيد بن جبير: إنَّ عكرمة كره كري الأرض. فقال: كذب، سمعت ابن عبَّاس يقول: [إنَّ] أمثل ما أنتم صانعون استئجار الأرض البيضاء. وكان يحيى بن سعيد الأنصاريُّ يكذِّبه، وكان مالك لا يرى عكرمة ثقة، كما قاله معن بن عيسى وغيره، وكان يأمر أن لا يؤخذ عنه، قال الشَّافعيُّ: كان مالك سيِّء الرَّأي في عكرمة، قال: لا أرى لأحد أن يقبل حديثه. وقيل للقاسم: إنَّ عكرمة قال كذا. قال: يا ابن أخي! إنَّ عكرمة كذَّاب! وقال الأعمش عن إبراهيم: لقيت عكرمة، فسألته عن البطشة الكبرى، فقال: هي القيامة. فقلت: إنَّ ابن مسعود كان يقول: البطشة الكبرى يوم بدر. فبلغني بعد ذلك أنَّه سئل عن ذلك، فقال: يوم بدر. وقال عبد الرحمن: حدَّث عكرمة بحديث، فقال: سمعت ابن عبَّاس يقول: كذا وكذا. فقلت: يا غلام! هات الدَّواة. قال: أعجبك؟ قلت: نعم. قال: تريد أن تكتبه؟ قال: نعم. قال: إنَّما [قلته] برأي.
          قال ابن سعد: قالوا: كان عكرمة بحراً من البحور، ويتكلَّم النَّاس فيه، وليس يحتجُّ بحديثه. قال ابن حجر(10) : فهذا جميع ما نقل(11) الأئمَّة في تكذيبه على الإبهام. قال: وسنذكر بيان ذلك، ونعرف(12) وجوهه، وأنَّه لا يلزم عكرمة من شيء منه قدح في حديثه، وأمَّا الوجه الثَّاني، وهو الطَّعن فيه برأي الخوارج، فقال أبو الأسود محمَّد بن عبد الرَّحيم: كان عكرمة قد أتى نَجْدَةَ الحروريَّ، فأقام(13) عنده [ستَّة أشهر، ثمَّ رجع إلى ابن عبَّاس، فسلَّم عليه، فقال: قد جاء الخبيث. قال: وكان] يتحدَّث برأي نجدة، وكان نجدة أوَّل من أحدث رأي الصُّفْرِيَّةِ. قال الجُوزجانيُّ: قلت لأحمد بن حنبل، أكان عكرمة إباضيًّا؟ قال: يقال: إنَّه كان صُفْرِيًّا. وقال أبو طالب عن أحمد: كان يرى رأي الخوارج الصُّفريَّة، وعنه أخذ أهل أفريقية. وقال ابن المدينيِّ: إنَّه كان يرى رأي نجدة. وقال ابن معين: إنَّه كانت ينتحل(14) مذهب الصُّفريَّة، ولأجل هذا تركه مالك. وقال مصعب بن الزُّبير: كان يرى رأي الخوارج. وزعم أنَّ عليَّ بن عبَّاس(15) كان على هذا المذهب. قال مصعب: وطلبه بعض الولاة بسبب ذلك، فتغيَّب عنه هو وداود بن الحصين إلى أن مات.
          قال خالد بن أبي عمران المصريُّ: دخل علينا عكرمة أفريقية وقت الموسم، فقال: وددت أنِّي اليوم بالموسم بيدي حربة أضرب(16) بها يميناً وشمالاً. قال أبو سعيد بن يونس: وبالمغرب إلى وقتنا هذا قوم على مذهب الإباضيَّة، يعرفون بالصُّفريَّة، / يزعمون أنَّهم أخذوا ذلك عن عكرمة. قال يحيى بن بُكَيْر: قدم عكرمة مصر، ونزل بها داراً، وخرج إلى المغرب، فالخوارج الذين بالمغرب عنه أخذوا.
          قال يزيد النَّحويُّ: كنت قاعداً عند عكرمة، فأقبل مُقَاتِلُ بنُ حَيَّان وأخوه، فقال مقاتل: يا أبا عبد الله! ما تقول في نبيذ الجرَّة؟ قال: هو حرام. قال: فما تقول فيمن يشربه؟ قال: أقول: إنَّ (كلَّ) شربة منه كفر.
          قال الدَّرَاْوَرْدِيُّ: توفِّي عكرمةُ وكُثَيِّرُ عَزَّةَ في يوم واحد، فعجب النَّاس لموتهما واختلاف رأيهما، عكرمة يظنُّ به رأي الخوارج يكفِّر بالذَّنب، وكثيِّر شيعيٌّ يؤمن بالرَّجعة إلى الدُّنيا.
          وأمَّا الوجه الثَّالث، فقال أبو طالب: قلت لأحمد: ما كان شأن عكرمة، كان ابن سيرين لا يرضاه؟ قال: كان يرى رأي الخوارج، وكان يأتي الأمراء يطلب جوائزهم، ولم يترك موضعاً إلَّا خرج إليه. وقال عبد العزيز بن أبي روَّاد: رأيت عكرمة بنيسابور، فقلت له: تركت الحرمين، وجئت إلى خراسان! قال: جئت أسعى على عيالي. قال أبو نعيم: قدم على الوالي بأصبهان، فأجازه بثلاثة آلاف.
          هذا جميع ما قيل (فيه) من القدح، قال ابن حجر: فأمَّا الوجه الأوَّل، فقول ابن عمر، لم يثبت عنه؛ لأنَّه من رواية [أبي] خلف عن يحيى البكَّاء أنَّه سمع ابن عمر، ويحيى البكَّاء متروك الحديث. قال ابن حبَّان: ومن المحال أن يجرَّح العدل لكلام المجروح. وقال ابن جرير: إن ثبت هذا عن ابن عمر فهو محتمل لأوجه كثيرة(17) ، لا يتعيَّن منه القدح في جميع روايته، فقد يمكن أن يكون أنكر عليه مسألة من المسائل كذَّبه فيها(18) . قلت: وهو(19) احتمال صحيح؛ لأنَّه روي عن ابن عمر أنَّه أنكر عليه الرِّواية عن ابن عبَّاس في الصَّرف، ثمَّ استدلَّ ابن جرير على أنَّ ذلك لا يوجب قدحاً [فيه] بما رواه الثِّقات. عن سالم بن عبد الله بن عمر أنَّه قال(20) _إذا قيل له: إنَّ نافعاً مولى ابن عمر حدَّث عن ابن عمر في مسألة الإتيان في المحلِّ المكروه_: كذب العبدُ على أبي. قال ابن جرير: ولم يروا ذلك من قول سالم في نافع جرحاً، فينبغي أن لا يروا ذلك من ابن عمر في عكرمة جرحاً. قال ابن حبَّان: أهل الحجاز يطلقون كَذَب في موضع أخطأ. ويؤيِّده إطلاق عبادة بن الصَّامت قوله: كذب أبو محمَّد؛ لما أخبر أنَّه يقول: الوتر واجب. فإنَّ أبا محمَّد لم يقله من روايته، وإنَّما قاله اجتهاداً، والمجتهد لا يقال: كذب. وإنَّما يقال له: أخطأ. وأمَّا قول ابن المسيَّب، فقال ابن جرير: ليس بعيد أن يكون الذي حكي عنه نظير الذي حكي عن ابن عمر. قال ابن حجر: هو كما قال، فقد تبيَّن ذلك من حكاية(21) عطاء الخراسانيِّ عنه في تزويج النَّبيِّ صلعم بميمونة، ولقد ظلم عكرمة في ذلك، فإنَّ هذا مرويٌّ عن ابن عبَّاس من طرق كثيرة أنَّه كان يقول: إنَّ النَّبيَّ صلعم تزوَّجها وهو محرم. ونظير ذلك ما تقدَّم عن عطاء، وسعيد بن جبير، ويقوِّي صحَّته ما حكاه ابن حبَّان أنَّهم يطلقون / الكذب في موضع الخطأ، (على) ما سيأتي عن هؤلاء من الثَّناء عليه والتَّعظيم له، فإنَّه دالٌّ على أنَّ طعنهم عليه إنَّما هو في هذه المواضع المخصوصة، ولذلك قال ابن سيرين: الظَّاهر أنَّه طعن عليه من حيث الرأي، وإلَّا فقد قال خالد الحذَّاء: كلُّ ما قال محمَّد بن سيرين: ثبت(22) عن ابن عباَّس، فإنَّما أخذه عن عكرمة، وكان لا يسمِّيه؛ لأنَّه لم يكن يرضاه، وأمَّا رواية يزيد بن أبي زياد عن عليِّ بن عبد الله بن عبَّاس في تكذيبه، فقد ردَّها أبو حاتم ابن حبان بضعف يزيد، وقال: إنَّ يزيد لا يحتجُّ بنقله. قال ابن حجر(23) : هو كما قال، وأمَّا ما روي عن يحيى بن سعيد في ذلك، فالظَّاهر أنَّه قلَّد فيه سعيد بن المسيَّب، وأمَّا قصَّة (القاسم) بن محمَّد، فقد بيَّن سببها، وليس بقادح؛ لأنهَّ لا مانع أن يكون عند المتبحِّر في العلم في المسألة القولان والثَّلاثة، فيخبر بما يستحضر منها، ويؤيِّد ذلك ما رواه ابن هبيرة، قال: قدم علينا عكرمة مصر، فجعل يحدِّثنا عن الرَّجل من الصَّحابة، ولم يحدِّثنا بذلك الحديث عن غيره، فأتينا إسماعيل بن عبيد الأنصاريَّ، وكان قد سمع ابن عبَّاس، فذكرنا ذلك له، فقال: أنا أختبره لكم. فأتاه، فسأله عن أشياء كان سمعها من ابن عبَّاس، فأخبره بها على مثل ما سمع، قال: ثمَّ أتيناه فسألناه، فقال: الرَّجل صدوق، ولكنَّه سمع من العلم فأكثر، فكلَّما سنح له طريق سلكه. وقال أبو الأسود: كان عكرمة قليل العقل، وكان قد سمع الحديث من رجلين، وكان إذا سئل حدَّث به عن رجل، ثمَّ يسأل عنه بعد حين، فيحدِّث عن الآخر، فيقولون: ما أكذبه! وهو صادق. وقال أيُّوب: قال عكرمة: أرأيت هؤلاء الذين يكذِّبونني من خلفي، أفلا يكذِّبونني في وجهي؟ يعني أنَّهم إذا واجهوه بذلك أمكنه الجواب عنه، والمخرج منه، وقال سليمان بن حرب: وجه هذا أنَّهم إذا قرَّروه بالكذب لم يجدوا عليه حجَّة. وأما طعن إبراهيم عليه بسبب رجوعه عن قوله في تفسير البطشة، فالظَّاهر أنَّ هذا يوجب الثَّناء على عكرمة، لا القدح؛ إذ كان يظنُّ شيئاً، فبلغه عمَّن هو أولى منه خلافه، فترك قوله لأجل قوله. وأمَّا قصَّة القاسم بن معن ففيها دلالة على تحرِّيه، فإنَّه حدَّثه في المذاكرة بشيء، فلمَّا رآه قد أراد أن يكتب عنه فأخبره [أنَّه] إنَّما قال برأيه. وأمَّا ذمُّ مالك، فقد بيَّن سببه، وأنَّه لأجل ما رمي به من القول ببدعة الخوارج، وقد جزم بذلك أبو حاتم، وسأل ابن أبي حاتم أباه عن عكرمة، فقال: ثقة. فقلت: يحتجُّ به(24) ؟ قال: نعم، إذا روى عنه الثِّقات. فالذي أنكر عليه مالك إنَّما هو بسبب(25) رأيه، [على] أنَّه لم يثبت عنه من وجه قاطع أنَّه كان يرى ذلك، وإنَّما كان يوافق في بعض المسائل، فنسبوه إليه، وقد برَّأه أحمد العجليُّ من ذلك، فقال في كتاب الثِّقات(26) له: / عكرمة مولى ابن عبَّاس، مكِّيٌّ، تابعيٌّ، ثقة، بريء ممَّا يرميه (به) النَّاس من الحروريَّة. قال ابن جرير: لو كان (كلُّ) من ادُّعي عليه مذهب من المذاهب الرَّديئة ثبت عليه ما ادُّعي [به] ، وسقطت عدالته، وبطلت شهادته بذلك؛ للزم ترك أكثر محدِّثي الأمصار(27) ؛ لأنَّه(28) ما منهم أحد إلَّا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب له عنه. وأما قبوله جوائز الأمراء، فليس ذلك بمانع قبول روايته، وهذا الزُّهريُّ قد كان في ذلك أشهر من عكرمة، ومع ذلك لم يترك أحد الرِّواية عنه بسبب ذلك.
          وقال ابن حجر: وإذا فرغت من الجواب عمَّا طعن فيه، فلنذكر ثناء النَّاس عليه من أهل عصره، وهلمَّ جراً.
          قال عثمان بن حكيم: كنت جالساً مع أبي أمامة سهل(29) بن حنيف إذ جاء عكرمة، فقال: يا أبا أمامة! أذكرك الله، هل سمعت ابن عبَّاس يقول: ما حدَّثكم عنِّي عكرمة فصدِّقوه، فإنَّه لن يكذب عليَّ؟ قال أبو أمامة: نعم.
          وقال عكرمة: قال لي ابن عبَّاس: انطلق، فأفت النَّاس. وقال عمرو بن دينار: أعطاني جابر بن زيد صحيفة فيها مسائل عن عكرمة، فجعلت كأنِّي أتباطأ، فانتزعها من يدي، وقال: هذا عكرمة مولى ابن عبَّاس، هذا أعلم النَّاس.
          قال الشَّعبيُّ: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة. قال حبيب بن أبي ثابت: مرَّ عكرمة بعطاء وسعيد بن جبير فحدَّثهم، فلمَّا قام قلت لهما: تنكران ممَّا حدَّث شيئاً؟ قالا: لا. وقال أيُّوب: قال فلان: كنت جالساً إلى عكرمة وسعيد بن جبير وطاووس. وأظنُّه قال: وعطاء في نفر، وكان عكرمة صاحب الحديث يومئذ، وكأنَّ على رؤوسهم الطَّير، فما خالفه أحد منهم(30) ، إلَّا أَّن سعيداً خالفه في مسألة واحدة. قال أيُّوب: أرى ابن عبَّاس كان يقول القولين جميعاً.
          قال حبيب أيضاً: اجتمع عندي خمسة: طاووس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء، فأقبل مجاهد وسعيد يلقيان على عكرمة المسائل، فلم يسألاه عن آية إلَّا فسَّرها لهما، فلمَّا نفد ما عندهما جعل يقول: نزلت آية كذا في كذا، و [آية كذا في] كذا.
          قال ابن عيينة: كان عكرمة إذا تكلَّم في المغازي فسمعه إنسان قال: كأنَّه مشرف عليهم يراهم. قال أيوب: لو قلت لك: ترك الحسن كثيراً من التَّفسير حين دخل عكرمة البصرة حتَّى خرج منها لصدقت.
          قال عبد الصَّمد بن معقل: لمَّا قدم الجند أهدى إليه طاووس نجيباً بستِّين ديناراً، [فقيل له في ذلك، فقال: ألا أشتري علم ابن عبَّاس لعبد الله بن طاووس بستِّين ديناراً] .
          قال جرير عن مغيرة: قيل لسعيد: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: عكرمة.
          قال قتادة: كان أعلم التَّابعين أربعة. فذكره فيهم. قال: وكان أعلمهم بالتَّفسير.
          وقال معمر عن أيُّوب: كنت أريد أن أرحل إلى عكرمة، فإنِّي لفي سوق البصرة؛ إذ قيل لي: هذا عكرمة. فقمت إلى جنب حماره، فجعل النَّاس يسألونه، وأنا أحفظ. /
          وقال أيُّوب: لو لم يكن عندي ثقة لم أكتب عنه.
          وسأل ابن جُريج(31) يحيى بن أيُّوب: هل كتبتم عن عكرمة؟ قال: لا. قلت(32) : فاتكم ثلثا العلم.
          قال عمرو بن دينار: والله ما رأيت مثل عكرمة قطُّ. وقال سلام بن مسكين: كان عكرمة من أعلم النَّاس بالتَّفسير. وقال سفيان الثَّوريُّ: خذوا العلم من أربعة، وبدأ بعكرمة.
          قال جعفر الطَّيَالِسيُّ: إذا رأيت أحداً يقع في عكرمة فاتَّهمه على الإسلام. قال عثمان الدَّارميُّ لابن معين: أيُّما أحبُّ إليك عكرمة عن ابن عبَّاس أو عبد الله بن عبد الله بن عتبة؟ فقال: كلاهما. ولم يختر(33) ، فقلت: عكرمة أو سعيد بن جبير؟ فقال: ثقة وثقة، ولم يخيِّر.
          قال محمَّد بن نصر المروزيُّ: أجمع عامَّة أهل العلم على الاحتجاج بحديث عكرمة، واتَّفق رؤساء أهل العلم في عصرنا: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، وأبو ثور، وسألت إسحاق عن الاحتجاج بحديثه، فقال: عكرمة عندنا إمام الدُّنيا. وتعجَّب(34) من سؤالي إيَّاه. وهكذا سأل بعضهم يحيى بن معين عن الاحتجاج بحديث عكرمة، فأظهر التعجُّب(35) ، وقال ابن المدينيِّ: عكرمة من أهل العلم، ولم يكن من موالي ابن عبَّاس أغزر منه (علماً).
          وقال أبو حاتم: أصحاب ابن عبَّاس عيال على عكرمة. وقال البزَّار: روى عن عكرمة مئة وثلاثون رجلاً من أهل البلدان كلُّهم رضوا به.
          وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: كان عكرمة من أثبت النَّاس فيما يروي، ولم يحدِّث عمَّن هو دونه أو مثله، أكثر حديثه عن الصَّحابة.
          قال أبو جعفر ابن جرير(36) : لم يكن أحد يدفع عكرمة عن التَّقدُّم في العلم بالفقه والتَّفسير وكثرة الرِّواية للآثار.
          ووصف أجلَّة(37) أصحاب ابن عبَّاس له بالتَّقدُّم في العلم، وأمرهم النَّاس بالأخذ عنه بشهادة بعضهم تثبت عدالة الإنسان، ويستحقُّ جواز الشَّهادة، ومن ثبتت عدالته لا يقبل فيه الجرح، ولا تسقط العدالة بالظَّنِّ، وبقول فلان لمولاه(38) : لا تكذب عليَّ. وما أشبهه من القول الذي له وجوه وتصاريف، غير(39) الذي وجَّهه إليه أهل الغباوة، ومن لا علم له بتصاريف كلام العرب.
          قال ابن حبَّان: كان عكرمة من علماء زمانه بالفقه والقرآن، ولم(40) أعلم أحداً ذمَّه بشيء. يعني يجب قبوله والقطع به، وقال أبو أحمد الحاكم: احتجَّ بحديثه الأئمَّة القدماء، لكنَّ بعض المتأخِّرين أخرج حديثه عن حيِّز الصَّحيح بقصَّة نافع المذكورة(41) .
          قال ابن منده: عكرمة في نفسه قد عدَّله أمَّة من التَّابعين، أكثر من سبعين رجلاً من خيار التَّابعين ورفعائهم(42) ، وهذه منزلة لا توجد لكثير من التَّابعين، على أنَّ من جرَّحه من الأئمَّة لم يمسك(43) عن الرِّواية عنه، وكان [حديثه] يبلغ بالقبول قرناً بعد قرن، إلى زمن الأئمَّة الذين أخرجوا الصَّحيح، على أنَّ مسلماً كان أسوأهم رأياً فيه، وقد أخرج له مقروناً.
          قال ابن عبد البرِّ: عكرمة من أجلَّة العلماء، ولا يقدح فيه / كلام من تكلَّم فيه؛ لأنَّه لا حجَّة لأحدهم، وكلام ابن سيرين فيه، لا خلاف بين أهل العلم أنَّه كان أعلم بكتاب الله من ابن سيرين، وقد يظنُّ الإنسان ظنًّا يغضب له، ولا يملك نفسه، وزعموا أنَّ مالكاً أسقط عكرمة من الموطَّأ، وليس كذلك؛ لأنَّه ذكره في الحجِّ مصرِّحاً(44) باسمه، ومال إلى روايته عن ابن عبَّاس، وترك رواية عطاء في تلك المسألة، مع كون عطاء أجل التَّابعين في علم المناسك.
          قال عكرمة: كان ابن عبَّاس يجعل في رحلي الكيل، ويعلِّمني القرآن والسُّنن. عن حبيب بن أبي ثابت، قال: اجتمع عندي خمسة، لا تجتمع عندي خمسة مثلهم أبداً: عطاء، وطاووس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، فأقبل مجاهد، وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التَّفسير، فلم يسألاه عن آية إلَّا فسَّرها، فلمَّا نفد ما عندهما جعل عكرمة يقول: أنزلت آية كذا في كذا، وأنزلت آية كذا في كذا. قال: ثمَّ دخلوا الحمام ليلاً.
          قال الشَّعبيُّ: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة. ولمَّا قدم عكرمة على طاووس حمله على نَجيب _يعني أعطاه جَمَلاً_ ثمنه ستُّون ديناراً، (وقال: لأشترينَّ علم هذا العبد بستِّين ديناراً).
          وقال له ابن عبَّاس: انطلق فأفت النَّاس، فمن سألك عمَّا يعنيه فأفته، ومن سألك عمَّا(45) لا يعنيه فلا تفته، فإنَّك تطرح عنِّي ثلثي مؤنة النَّاس.
          قال عمرو بن دينار: كنت إذا سمعت من عكرمة يحدِّث عن المغازي كأنَّه مشرف عليهم، ينظر كيف كانوا يصنعون ويقتلون.
          قال الفرزدق: قدم علينا عكرمة، ونحن مع شهر بن حوشب بجرجان، فقال لشهر: ألا نأتيه؟ فقال: ائتوه، فإنَّه لم تكن أمَّة إلَّا وقد كان لها حبر، وإَّن مولى هذا كان حبر هذه الأمَّة.
          قال عبد العزيز بن أبي روَّاد: قلت لعكرمة بنيسابور: الرَّجل يدخل الخلاء وفي يده خاتم فيه اسم الله تعالى؟ قال: يجعل فَصَّهُ في باطن كفه، ثمَّ يقبض عليه.
          قال سفيان الثَّوريُّ: خذوا التَّفسير من(46) أربعة: سعيد بن جبير، والضَّحَّاك، وعكرمة، ومجاهد.
          قال سعيد بن مسروق عن عكرمة: الخيل التي شغلت سليمان بن داود ♂ عشرون ألفاً، فعقرها. وقال عكرمة في قوله ╡: { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } [النساء:17] قال: الدُّنيا كلُّها قريب، وكلُّها جهالة. وقال في قوله تعالى: { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ }(47) [القصص:83] ، عند سلاطينها وملوكها { ولا فساداً } لا يعملون بمعاصي الله تعالى.
          قال عكرمة: دخلت على ابن عبَّاس _وقد نشر مصحفه_ وهو ينظر فيه ويبكي، قلت: ما يبكيك يا أبا العبَّاس؟ قال: آيٌ في هذا المصحف. قلت: وما هي؟ قال: قوم أمروا ونهوا فنجوا، وقوم لم يأمروا ولم ينهوا، فهلكوا فيمن هلك من أهل المعاصي، يقول الله تعالى { واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ } الآية [الأعراف:163] وذلك أنَّ أهل أيلة، وهي قرية على شاطىء البحر، / وكان الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يتفرَّغوا ليوم الجمعة، فقالوا: بل نتفرَّغ ليوم السَّبت، لأنَّ الله تعالى فرغ من الخلق يوم السَّبت. فنهاهم عن الصَّيد يوم السَّبت، فإذا كان يوم السبت كانت تجيئهم الحيتان إلى مشارعهم سِمَاناً، تتقلَّب من ظهورها إلى بطونها، آمنة لا تخاف شيئاً، وذلك قوله تعالى: { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً }(48) [وقال في تفسير شرعاً: أي ظاهرة] . يعني إلى مشارعهم، فإذا كانت عشيَّة يوم السَّبت ليلة الأحد، ذهبت عنهم الحيتان إلى مثلها من السَّبت، فأصاب القومَ جهد شديد، وكان متجرهم ومكسبهم، فانطلقت أمة من إماء القوم، فاصطادت(49) سمكة في يوم السَّبت، ثمَّ جعلتها في جرَّتها(50) ، فأكلتها في يوم الأحد، فلم تضرَّها، وذلك أنَّ داود ◙ كان يقدِّم إليهم في ذلك، وهو الذي لعن من اعتدى(51) في السَّبت، فقالت الأمة لمواليها: اصطدت يوم السَّبت، وأكلت يوم الأحد، فلم يضرَّني. فصاد مواليها يوم السَّبت، وانتفعوا بها يوم الأحد، وباعوا حتَّى كثرت أموالهم، ففطن النَّاس، واجتمعوا على أن يصيدوا يوم السَّبت، فقال قوم: لا ندعكم (تفعلون) ذلك(52) . فجاء قوم فداهنوا قالوا { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا }(53) قال الذين أمروا ونهوا: { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }(54) [الأعراف:164] [يعني ينتهون] عن الصَّيد، فلمَّا نهوا ردُّوا عليهم، فقالوا: إنَّما نهانا الله عن أكلها يوم السَّبت، ولم ينهنا عن صيدها. قال: فواقعوا الصَّيد يوم السَّبت، قال: فخرج الذين أمروا ونهوا عن مدينتهم، فلمَّا أمسوا بعث الله جبريل، فصاح عليهم صيحة واحدة، فإذا هم قردة خاسئين، فلمَّا أصبحوا لم يخرج إليهم أحد منهم(55) ، فبعثوا رجلاً، فاطَّلع عليهم، فلم ير في المدينة أحداً، فنزل فيها، ودخل الدُّور، فلم ير أحداً، فدخل البيوت، فإذا هم قردة في زوايا البيوت، ففتح الباب ونادى: يا عجباً قردة لها أذناب تتعاوى. فدخلوا إليهم، فكانت القردة تعرف أنسابها من الإنس، والإنس لا تعرف أنسابها من القردة، وذلك قوله ╡: { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } [الأعراف:165] ، يعني لمَّا تركوا ما وعظوا به وخُوِّفوا بعذاب الله {أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165] أي شديد { فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ } يعني تمادوا واجترؤوا { قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [الأعراف:166] ، يعني صاغرين { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } [البقرة:66] من الأمم إلى أمَّة محمَّد صلعم وما خلفها(56) من أهل زمانهم { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة:66] من الشِّرك، يعني أمَّة محمَّد صلعم، [قال:] فأماتهم الله تعالى. قال ابن عبَّاس: إذا كان يوم القيامة بعثهم الله تعالى في صورة الإنس، فيدخل النَّار الذي اعتدوا في السَّبت، ويحاسب الذين لم يأمروا ولم ينهوا بأعمالهم، وكان المسخ عقوبة لهم في الدُّنيا حين تركوا الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر. قال عكرمة: قال ابن عبَّاس: ليت شعري ما فعل المداهنون؟ / قال عكرمة: [قلت: له] { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [الأعراف:165](57) ، قال ابن عبَّاس: هلك والله القوم. قال: فكساني ابن عبَّاس ثوبين.
          [قال الكَوَاشيُّ في تفسيره: قال ابن عبَّاس ما أروي(58) ما فُعل بالفرقة السَّاكتة؟ قال عكرمة: قلت ألا تراهم(59) قد أنكروا بقولهم:{ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ }[الأعراف: 164] وإن لم يقل: أجبتهم. فلم يقل: أهلكتهم. فأعجبه قولي، وقال: نجت السَّاكتة، وإنَّما هلكت الآخذة. تلخيصه: نجت السَّاكتة والنَّاهية؛ وعذِّبت الصَّائدة عذاباً شديداً] .
          قال عكرمة: كانت القضاة في بني إسرائيل(60) ثلاثة، فمات(61) واحد منهم فجعلوا آخر مكانه، فقضوا ما شاء الله أن يقضوا، فبعث الله مَلَكاً على فرس، فمرَّ على رجل يسقي بقرة معها عجل، فدعا العجل، فتبع العجل الفرس، فتبعه(62) صاحب العجل، فقال: يا عبد الله عجلي! فقال الملك: العجل عجلي، وهو ابن فرسي. فخاصمه حتَّى أعياه، فقال: بيني وبينك القاضي. قال: قد رضيت. فارتفعا إلى أحد القضاة، قال فتكلَّم(63) صاحب العجل، فقال: إنَّه مرَّ بي على فرسه، فدعا عجلي فتبعه، فأبى أن يردَّه. قال: ومع الملك ثلاث درُّات، يعني لؤلؤات، لم ير النَّاس مثلها، فأعطى القاضي درَّة، فقال: اقض لي. فقال: كيف يسوغ هذا لي؟ قال: تخرج الفرس والبقرة، فإن تبع العجلُ الفرسَ عذرت. ففعل ذلك، ثمَّ أتى الآخر، ففعل مثل ذلك، ثمَّ أتى القاضي الثَّالث، وفعل مثل ذلك، وناوله الدُّرَّة، فلم يأخذها، وقال: لا أقضي بينكما؛ فإنِّي حائض. فقال الملك: سبحان الله! هل يحيض الرَّجل؟ فقال القاضي: [سبحان الله!] وهل تلد الفرس عجلاً؟ فقضى لصاحب البقرة.
          قال عكرمة: إنَّ ملِكاً قال لأهل مملكته: إنِّي إن وجدت أحداً تصدَّق(64) بصدقة قطعتُ يده. فجاء سائل إلى امرأة، فقال: تصدَّقي عليَّ بشيء. فقالت: كيف أتصدَّق عليك، والملك يقطع يد من يتصدَّق(65) ؟ فقال: أسألك بوجه(66) الله إلَّا تصدَّقت عليَّ. فتصدَّقت عليه برغيفين، فبلغ في ذلك الملك، فأرسل إليها، فقطع يديها، ثمَّ قال الملك لأمِّه: دلِّيني على امرأة جميلة أتزوَّجها. قالت: ههنا امرأة جميلة، ما رأيت مثلها لولا عيب فيها(67) . قال: أيُّ عيب؟ قالت: مقطوعة اليدين. قال: فأرسلي إليها. فلمَّا رآها أعجبته(68) ، فتزوَّجها وأكرمها، فظهر على الملك عدوٌّ، فخرج إليهم، ثمَّ كتب إلى أمِّه أن استوصي بفلانة خيراً، فجاء الرَّسول، فنزل على ضرائرها(69) ، فحسدنها، وأخذن الكتاب فغيَّرنه، وكتبن إلى الأمِّ: أن انظري (إلى) فلانة، فإنَّه بلغني أنَّ رجالاً يأتونها، فأخرجيها من البيت، وافعلي وافعلي. فكتبت إليه الأمُّ: إنَّها امرأة صدق، وقد كذب عليها. ورجع الرَّسول بالكتاب، ونزل على الضَّرائر، فغيَّرن الكتاب، وكتبن أنَّها فاجرة، وولدت غلاماً. فكتب إلى أمِّه: أن انظري فلانة، واربطي ولدها على رقبتها، واضربي جنبها (وأخرجيها). فلمَّا جاءها الكتاب قرأته عليها، وقالت لها: اخرجي. فحملت الصَّبيَّ على رقبتها وذهبت، فمرَّت بنهر وهي عطشانة، فبركت للشِّرب، والصَّبيُّ على رقبتها، فوقع في الماء فغرق، فجلست على شاطىء النَّهر تبكي، فمرَّ بها رجلان، فقالا: ما يبكيك؟ فقالت: ابني وقع في الماء / وغرق، وليس لي يدان. فقالا: أتحبِّين أن يردَّ الله يديك كما كانت؟ قالت: نعم. فدعَوَا الله ربَّهما، فاستوت يداها، فقالا لها: تدرين(70) من نحن؟ قالت: لا. قالا: نحن رغيفاك اللَّذان تصدَّقت بهما. هكذا روى [أبو نعيم] في الحلية(71) ، وزاد غيره: إنَّ الله ردَّ عليها ولدها أيضاً بطلبها. فسبحان الكريم الذي لا يظلم مثقال ذرَّة { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } [النساء:40] ، { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } [الزلزلة:7] هذا ما في الدُّنيا، وما في الآخرة أعظم، وما ذلك على الله بعزيز، آمنَّا بالله تعالى.
          عن عكرمة أنَّ الطَّير الأبابيل خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السِّباع، ولم تزل ترميهم بالحجارة حتَّى جَدِرَتْ جلودهم، فما رؤي الجدريُّ قبل يؤمئذ، ولا بعدُ، فانطلق فَلُّهم(72) حتَّى أتوا الوادي، وما دَرَّ الوادي قبل ذلك بخمس عشرة سنة، فأرسل الله عليه السَّيل فغرَّقهم، وهذا غير سيل العرم، متأخِّر عنه.
          عن عكرمة في قوله تعالى: { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [فصلت:6- 7] قال: الذين لا يقولون: لا إله إلا الله. وفي قوله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى } [الأعلى: 14] (73) أي قال: لا إله إلا الله. وفي قوله: { هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى } [النازعات: 18] قال: إلى أن تقول: لا إله لا الله. وفي قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } [فصلت:30] ، قال: على شهادة أن لا إله إلا الله. وفي قوله تعالى: { أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } [هود:78] يعني يقول: لا إله إلا الله. وفي قوله تعالى: { إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [النبأ:38] ، أي قال: لا إله إلا الله. وفي قوله: { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [آل عمران:194] ، قال: الميعاد من قال: لا إله إلا الله. وفي قوله: { فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } [البقرة:193] ، على من (لا) يقول: لا إله إلا الله.
          قال عكرمة: بينما رجل مستلق في الجنَّة، فقال في نفسه: (لو) أنَّ الله أذن لي لزرعت في الجنَّة. فلم يعلم إلَّا والملائكة على أبواب الجنَّة قابضين على أيديهم، فيقولون: سلام عليك. فاستوى قاعداً، فقالوا [له] : يقول لك ربُّك: تمنَّيت شيئاً في نفسك قد علمته، وقد بعث معنا هذا البذر. فيقول: ابذروا. فألقوا يميناً وشمالاً، وبين يديه وخلفه، فخرج أمثال الجبال على ما كان تمنَّى وأراده، فقال له الرَّبُّ من فوق عرشه: كُلْ يا ابن آدم، فإنَّ ابن آدم لا يشبع.
          قال عكرمة: إنَّ الشَّيطان ليزيِّن للعبد الذَّنب حتَّى يكسبه، فإذا كسبه تبرَّأ منه، فلا يزال العبد يبكي منه، ويتضرَّع إلى ربِّه، ويستكين حتَّى يغفر له ذلك الذنب وما قبله، فيندم(74) الشَّيطان على ذلك حين أكسبه إيَّاه.
          سئل عكرمة عن الماعون، قال: العارية. فقيل: إن منع الرَّجل غرباله، أو قِدْراً، أو شيئاً من متاع البيت، فله الويل! قال: لا، ولكنَّه إذا سها عن الصَّلاة، ومنع الماعون، فله الويل. انتهى. قلت: ☺ ما أحسن جوابه وأفيده! فإنَّ الواو لمطلق الجمع، والويل على من جمع بين الفعلين، لا أحدهما فقط، فتأمَّل، فإنِّه بديع.
          قال عكرمة: كان أهل سبأ قد أُعطوا ما ذكر الله في كتابه، وكانت / فيهم كهنة، وكانت الشَّياطين تسترق السَّمع، فتأتي الكهنة بأخبار السَّماء، وإنَّ كاهناً منهم كان شريفاً، كثير المال والولد، فخبر أنَّ زوال أمرهم قد دنا، وأنَّ العذاب قد أظلَّهم، فلم يدر كيف يصنع، فقال الرَّجل (لواحد) من بنيه أعزهم أخوالاً: إذا كان غداً، واجتمع النَّاس آمرك بأمر، فلا تفعل، فإذا انتهرتك فانتهرني، وإن تناولتك فالطمني. فقال: يا أبت، هذا عظيم، فلا تكلِّفنيه. فقال: يا بنيَّ، إنَّه حدث أمر لا بدَّ منه. فلمَّا أصبح واجتمع النَّاس، أمره فلم يفعل، فلطمه، فقال: علي بالشَّفرة. فقالوا: وما تريد أن تصنع؟ قال: أذبحه. فقالوا: لا، اضربه. فقال: لا، إلَّا أن أذبحه. فقال أخواله: لا ندعك تذبحه، فتكون مسبَّة علينا. قال: فما مقامي ببلد(75) يحال بيني وبين ولدي، اشتروا منِّي أملاكي. فاشتروا منه كلَّ شيء له، ثمَّ قال: يا قوم، إنَّه قد دنا زوال أمركم، وأظلَّكم العذاب، فمن أراد سفراً بعيداً، وحملاً شديداً فعليه بعمان، ومن أراد الخمر والعصير فعليه ببصرى(76) _يعني الشَّا_ ومن أراد الرَّاسخات في الوحل، والمطعمات في المحل، فعليه بيثرب ذات النخل. فخرج قوم إلى بصرى، وهم غسَّان، وخرج الأوس والخزرج وخزاعة إلى يثرب؛ حتَّى إذا كانوا ببطن مَرٍّ، قالت خزاعة: هذا موضع(77) طيِّب، لا نريد بدلاً، (ننزل) ههنا. فانقطعوا عن أصحابهم، وانخزعوا، وقدمت الأوس والخزرج إلى يثرب.
          عن عكرمة، قال لقمان لابنه: قد ذقت المرارة، فليس شيء أَمرَّ من الفقر، وحملت الحمل الثَّقيل، فليس شيء أثقلَ من الجار السُّوء، ولو أنَّ الكلام من فضَّة، لكان السُّكوت من ذهب.
          قال عكرمة في قوله تعالى: { وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } [الحديد:14] بالشَّهوات { وَتَرَبَّصْتُمْ } بالتوبة { وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ } التَّسويف { حَتَّى جَاء أَمْرُ اللهِ } الموت { وَغَرَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ }[الحديد:14] الشَّيطان. قلت: هذا على قراءة من فتح الغين المعجمة، فإنَّ الغُرور بالضَّمِّ للمصدر، ويمكن أن يطلق المصدر على الشَّيطان مبالغة، كأنَّه نفس الغرور، نجَّانا الله تعالى منه، ومن كيده، وألهمنا المبادرة إلى التَّوبة النَّصوح قبل إتيان أمر الله، فإنَّه رحيم بعباده.
          قال عكرمة: من قرأ سورة يس، لم يزل ذلك اليوم في سرور حتَّى يمسي. قال عكرمة: إنَّ الله تعالى قال: يا سماء أنصتي، ويا أرض استمعي، فإنَّ الله ╡ يريد أن يذكر شأن أناس من بني إسرائيل، إنِّي عهدت إلى عباد من عبادي، ربَّيتهم في نعمتي، واصطفيتهم لنفسي، فردُّوا إليَّ كرامتي، وطلبوا غير طاعتي، وأخلفوا وعدي، تعرف البقر أوطانها، والحمر معلفها، وتفزع، فويل لهؤلاء الذين عظمت خطاياهم، وقست قلوبهم، فتركوا الأمر الذي كانوا عليه، نالوا كرامتي، وسمُّوا أحبابي، فتركوا قولي، ونبذوا أحكامي، وعملوا بمعصيتي، وهم يتلون كتابي، ويتفقَّهون في ديني لغير(78) مرضاتي، ويقرِّبون لي القربات، وقد أبعدتهم عن نفسي، ويذبحون / لي الذَّبائح التي غصبوا عليها خلقي، يصلُّون فلا تصلُ إليَّ صلاتهم، ويدعونني فلا يعرج إلي دعاؤهم، يخرجون إلى المساجد، وفي نيَّاتهم الغلول، ويسألون رحمتي، وهم يقتلون من سأل بي، فلو أنَّهم أنصفوا المظلوم، وعدلوا في اليتيم، وحكموا للأيتام، وتطهَّروا من الخطايا، وتركوا المعاصي، ثمَّ سألوني لأعطيتهم ما سألوا، وجعلت جنَّتي لهم منزلاً، وما كان بيني وبينهم رسول، ولكن اجترؤوا عليَّ، وظلموا عبادي، فأكل وليُّ اليتيم مالَه، وأكل وليُّ الأمانة أمانته، وجحدوا الحقَّ؛ ليشترك الأمير ومن تحته، ويرشى الرَّسول، ويشترك من أرسله، فيرتشي(79) أمير، فيقتدي به من تحته، ويل لهؤلاء القوم، لو قد جاء وعدي، ثمَّ كانوا في الحجارة لشققت(80) عنهم بكلمتي، ولو قبروا في التُّراب لنفضت عنهم بطاعتي، ويل للمدن وعمرانها، لأسلِّطنَّ عليهم السِّباع، أعيد فيها بعد تحيَّة(81) الأعراس صراخ الهام _يعني البوم، وهو الطَّير المعروف_ وبعد صهيل الخيل عواء الذِّئاب، وبعد شرف القصور وعول السِّباع، وبعد ضوء السِّراج رهج العجاج، ولأبدِّلنَّ زجالهم بتلاوة القرآن انتهار الأرانب، وبعمارة المساجد كناسة المرابط، وبتاج الملك خفاق الطَّير، وبالعزِّ الذُّلَّ، وبالنِّعمة الجوع، وبالملك العبوديَّة، فقال نبيٌّ من أنبيائه، الله أعلم من هو: يا ربِّ، من رحمتك أتكلَّم بين يديك، وهل ينفعني ذلك شيئاً، وأنا أذل من التُّراب؟ إنك لمخوِّف هذه القلوب، ومهلك هذه الأمَّة، وهم ولد خليلك إبراهيم، [وأمَّة] صفيِّك موسى، وقوم نبيِّك داود، فأيُّ الأمم تجترىء عليك بعد هذه الأمَّة؟ وأيُّ قرية تعصيك بعد هذه القرية؟ قال الله ╡: إنِّي لم أستكثر بكثرتكم، ولم أستوحش بهلاككم، وإنَّما أكرمت إبراهيم وموسى وداود بطاعتي، ولو عصوني لأنزلتهم منزلة العاصين.
          قال الحكم بن أبان: كنت جالساً مع عكرمة نحو السَّاحل، فذكر الذين يغرقون في البحر، فقال عكرمة: الحمد لله، إنَّ الذين يغرقون في البحر تقسم(82) لحومهم الحيتان، فلا يبقى منه شيء إلَّا العظام تلوح، فتلفتها(83) الأمواج حتَّى تلقيها إلى البرِّ، فتمكث العظام حيناً حتَّى تصير رميماً، فتمرُّ بها الإبل فتأكلها، ثمَّ تسير الإبل فتبعر، ثمَّ يأخذه قوم فيوقدونه، ثمَّ تخمد تلك النَّار، فتجيء ريح فتلقي ذلك الرَّماد على الأرض، فإذا نفخ في الصُّور، فإذا هم قيام ينظرون، فيخرج أولئك، وأهل القبور سواء(84) .
          قال عكرمة: أخرج الله تعالى رجلاً من الجنَّة ورجلاً من النَّار، فوقفهما بين يديه، ثمَّ قال لصاحب الجنَّة: عبدي كيف رأيت مَقيلك في الجنَّة؟ قال: خير مقيل. فذكر من أزواجها، وما فيها من النَّعيم، ثمَّ قال لصاحب النَّار: عبدي كيف رأيت مَقيلك في النَّار؟ قال: شرُّ مقيل. وذكر عقاربها، وحيَّاتها، وزنابيرها، وما فيها من ألوان(85) العذاب، فقال له ربُّه: عبدي ماذا تعطيني إن (أنا) أعفيتك من النَّار؟ فقال العبد: وما عندي حتَّى أعطيك. فيقول: لو كان لك جبل من ذهب أكنت تعطيني، / فأعفيك من النَّار. فيقول: نعم. فيقول له ربُّه: كذبت، لقد سألتك في الدُّنيا أيسر من جبل من ذهب، فأبيت، سألتك أن تدعوني، فأستجيب لك، وتستغفرني، فأغفر لك، وتسألني فأعطيك، فكنت تتولَّى ذاهباً.
          قال عكرمة: ما من عبد يقرِّبه الله تعالى يوم القيامة للحساب إلَّا قام من عند الله بعفوه. وقال: لكلِّ شيء أساس، وأساس الدِّين الخلق الحسن. وقال: إنَّ في السَّماء ملكاً يقال له: إسماعيل، لو أذن له، ففتح أذناً من آذانه يسبِّح الرَّحمن ╡ لمات من في السَّماء والأرض.
          وقال عكرمة: إذا غربت الشَّمس دخلت بحراً تحت العرش، فتسبِّح الله تعالى؛ حتَّى إذا هي أصبحت استعفت ربَّها من الخروج، فقال لها الرَّبًّ: ولم ذاك _والرَّبُّ أعلم_؟ قالت: إنِّي إذا خرجت عبدت من دونك. فقال لها الرَّبُّ: اخرجي، فليس عليك شيء من ذلك، حسبهم جهنَّم، أبعثها إليهم مع ثلاثة عشر ألف ملك يقودونها، حتَّى يدخلوهم فيها.
          قال عكرمة: عن ابن عبَّاس، قال: التفت النَّبيُّ صلعم إلى حِرَاء _وهو اسم جبل بمكَّة_ فقال: «ما يسرُّني أنَّه لآل محمَّد ذهباً ينفقه في سبيل الله، يموت يوم يموت وعنده(86) منه دينار ولا درهم». ولقد ترك درعه التي كان يقاتل فيها مرهونة بثلاثين صاعاً من شعير. قال ابن عبَّاس: ولقد مات رسول الله صلعم وما خلَّف درهماً ولا ديناراً، وربَّما أتى على آل محمَّد ليالي لا يجدون عشاء، وكان صلعم يبيت اللَّيالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشَّعير.
          وقال: دخل عمر على النَّبيِّ صلعم وهو متَّكئ على حصير، قد أثر في جنبه، فقال: يا رسول الله! لو اتَّخذت فراشاً أوطأ من هذا. فقال: «ما لي وللدُّنيا، مالي وللدُّنيا، والذي نفسي بيده! ما مثلي ومثل الدُّنيا إلَّا كراكب سار في يوم صائف(87) ، فاستظلَّ تحت شجرة ساعة من نهار، ثمَّ راح وتركها». وقال: [قال:] صلعم «لا تمار أخاك، ولا تمازحه، ولا تعده موعداً فتخلفه». وقال صلعم: «لا تقفنَّ على رجل يضرب ظلماً، فإنَّ اللَّعنة تنزل من السَّماء(88) على من يحضره إذا لم يدفعوا [عنه، ولا تقفنَّ على رجل يقتل ظلماً فإن اللًّعنة تنزل من الله على من يحضره إذا لم يدفعوا] ».
          وقال [قال:] صلعم «مرَّ موسى بن عمران على رجل وهو يضطرب، فقام يدعو الله له أن يعافيه، فقيل له: يا موسى، إنَّه ليس الذي يصيبه خبط من إبليس، ولكن جَوَّع نفسه لي، فهو الذي ترى، إنِّي أنظر إليه كلَّ يوم مرَّات، فمره فليدعُ لك، فإنَّ له عندي كلَّ يوم دعوة».(89)
          وقال صلعم: «وإنَّ أهل الشِّبع في الدُّنيا هم أهل الجوع في الآخرة غداً».(90)
          وقال عكرمة: عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلعم كان إذا عطس غطَّى وجهه بثوبه، ووضع يده على حاجبيه. قلت: وبهذا يستدلُّ على أنَّه / صلعم عطس؛ لأنَّ لفظة كان للوقوع والاستمرار، نعم ما تثاءب نبيٌّ قطُّ؛ فإنَّ التَّثاؤب من الشَّيطان، كما أن العطسة من الرَّحمن.
          وقال عكرمة: عن عائشة أنَّ النَّبيَّ صلعم كان عليه بُردان قِطْريَّان خشنان غليظان، فقالت عائشة: يا رسول الله! إنَّ ثوبيك هذين غليظان خشنان، ترشح فيهما فيثقلان عليك، فأرسلْ إلى فلان، فقد أتاه بَزٌّ من الشَّام، فاشتر منه ثوبين إلى ميسرة. [فأرسل إليه، فأتاه الرَّسول فقال: إنَّ رسول الله بعث إليك لتبيعه ثوبين إلى ميسرة] .(91) فقال: قد علمتُ والله ما يريد نبيُّ الله إلَّا أن يذهب بثوبيَّ، أو يمطلني بثمنهما. فرجع إلى رسول الله صلعم فأخبره، فقال ◙: «كذب، قد علموا أنِّي أتقاهم لله وآدَّاهم للأمانة».(92) وقال: «لأن يلبس أحدكم من رقاع شَتَّى خير له من أن يستدين ما ليس عنده».


[1] في غير (ن): (بن عمر).
[2] شرح البخاري:2/48.
[3] في (ن): (عبيداً).
[4] وفيات الأعيان:3/265، وترجمته فيه.
[5] في (ن) تصحيفاً: (من).
[6] في غير (ن): (احتج).
[7] حلية الأولياء:3/326، وفيه: ومنور الروايات المبهمة.
[8] مقدمة الفتح: ص425.
[9] في (ن) و(ف): (قال ابن إسحاق: قال معن بن عيسى).
[10] مقدمة الفتح: ص425، وانظر تهذيب الكمال:20/264.
[11] في غير (ن): (نقله).
[12] في غير (ن): (ونصرف).
[13] في غير (ن): (وكان أقام).
[14] في (ن): (ينحل).
[15] في غير (ن): (وزعم علي أن بن عباس) والمثبت موافق لما في مقدمة الفتح.
[16] في (ن) تصحيفاً: (أحرب).
[17] في (ن): (كثير).
[18] في (ن): (منها).
[19] في غير (ن): (وهذا).
[20] سقطت من الأصول واستدركت من المصادر.
[21] في (ن) تصحيفاً: (خطئه).
[22] في (ن): (يثبت).
[23] مقدمة الفتح: ص427، وما بين حاصرتين منه، وجاء في غير (ن): (وأما قصة القاسم، قال ابن معين) وهو تحريف، والمثبت من الفتح.
[24] في غير (ن): (بحديثه).
[25] في (ن): (سبب).
[26] الثقات 2/145.
[27] مقدمة الفتح: ص428، وجاء في الأصول (أكثر الأنصار) بدل (محدثي الأمصار) والمثبت من الفتح، وكذا ما بين حاصرتين.
[28] في غير (ن): (لأن).
[29] في (ن): (أبي أمامة بن سهل) وهو خطأ.
[30] سقط قوله (أحد منهم) من الأصول واستدرت من مقدمة الفتح.
[31] في (ن) تصحيفاً: (ابن جرير).
[32] في (ن): (قلت: لا. قال).
[33] في غير (ن): (يخيِّر).
[34] في غير (ن): (وتعجبت) وهو تصحيف.
[35] في غير(ن): (العجب).
[36] في غير (ن): (قال أبو جعفر كان ابن جرير يقول) والمثبت موافق لابن حجر.
[37] في (ن) تصحيفاً: (جلسة).
[38] في (ن): (مولاه).
[39] في غير (ن): (عن) وهو تصحيف.
[40] في غير (ن): (ولا).
[41] في (ن): (المذكور).
[42] في (ن) تصحيفاً: (ورفقائهم).
[43] في (ن) تصحيفاً: (لم يشك).
[44] الموطأ، برقم (859)، باب من أصاب أهله.
[45] في غير (ن): (عمن).
[46] في غير (ن): (عن).
[47] في (ن): (تلك الدار الآخرة نجعلها. الآية، قال نجعلها للذين لا يريدون علوا..).
[48] في (ن): (يوم شرعهم).
[49] في (ن): (فاصطاد).
[50] في غير (ن): (جرتها).
[51] في الأصول كلها سوى (ن) و(ف): (اقتدى) وهو تصحيف.
[52] في حلية الأولياء 3/330: لا ندعكم تصيدون.
[53] في (ن): (فقالوا).
[54] في غير (ن): (ينتهون).
[55] في غير (ن): (منهم أحد).
[56] في (ن) تصحيفاً: (وما فيها).
[57] وكذلك وقع وهم في الأصول في هذه الآية هكذا: (فلما عتوا عما نهوا عنه أنجينا).
[58] هكذا في لعلها تصحيف من: (ما أدري).
[59] في (ن) تصحيفاً: (ألا تركهم) والتصويب يقتضيه السياق.
[60] في غير (ن): (كانت في بني إسرائيل القضاة).
[61] في غير (ن): (فكلما مات).
[62] في غير (ن): (فمنعه).
[63] في غير (ن): (فقام يتكلم).
[64] في غير (ن): (يتصدق).
[65] في غير (ن): (تصدق).
[66] في (ن): (لوجه).
[67] في غير (ن): (لولا عيبها).
[68] في (ن) تصحيفاً: (فأعجبتها).
[69] في غير (ن): (ضرائر لها).
[70] في غير (ن): (أتدرين).
[71] حلية الأولياء:3/332.
[72] في (ن) تصحيفاً: (فأمهم).
[73] في غير (ن): (قد أفلح من زكاها).
[74] في (ن) تصحيفاً: (فيقوم).
[75] في غير (ن): (ببلدي).
[76] في غير (ن): (ببصرى الشام يعني الشام).
[77] في غير (ن): (مكان).
[78] في (ن): (بغير).
[79] في غير (ن): (فيرشى).
[80] في (ن) تصحيفاً: (تشتققت).
[81] في غير (ن): (لجبة).
[82] في غير (ن): (تتقسم).
[83] في (ن): (فتلقيها) وفي الحلية: (فتقلبها).
[84] حلية الأولياء:3/338، وفي كتاب المجالسة وجواهر العلم لأبي بكر الدِّيْنَوَرِي 3/262: وبعد شرفات القصور مساكن السباع.
[85] في غير (ن): (أنواع).
[86] في غير (ن): (وما عنده) وهو خطأ.
[87] في غير (ن): (صيف).
[88] في غير (ن): (الله) وجاء في نسخة (ف) في الهامش لفظة (السماء) وفوقها (خ) أي في نسخة: (السماء) بدل (الله).
[89] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم (11695). وفيه: حظ من إبليس، وذكره صاحب الحلية:3/345، وقال: غريب من حديث فضيل ومنصور وعكرمة، تفرد به يحيى بن سليمان، وفيه مقال.
[90] أخرجه الطبراني، وقال المنذري إسناده حسن، جامع الأحاديث للسيوطي برقم (7610). وسقط قوله: (وقال صلعم ) من الأصول كلها واستدركت من الحلية.
[91] مابين حاصرتين سقط من الأصول كلها واسترك من الحلية:3/347.
[92] أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (25141) وإسناده صحيح.