غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

عمار بن ياسر

          956 # عَمَّار بن ياسر _بمثنَّاة تحتيَّة، وبعد الألف مهملة_ بن عامر بن مالك، العَنْسِيُّ _بفتح المهملة، وسكون النُّون، ثمَّ المهملة_، المُدْحِجِيُّ _بضمِّ(1) الميم، وسكون المهملة، وكسر الحاء المهملة، بعدها جيم_ اليماني، ومنهم الأَسْوَدُ العَنْسِيُّ الكذَّاب، ادَّعى النُّبوَّة، فقتله فيروز الدَّيلميُّ ☺ وشقَّ بطنه على فراشه ليلاً، كنية عمَّار أبو اليقظان.
          هو وأبوه وأمُّه من السَّابقين الأوَّلين إلى الإسلام، صلَّى عمَّار إلى القبلتين، واختلف في هجرته إلى الحبشة، وهو حليف بني مخزوم، وأمُّه سُمَيَّةُ، وهي أوَّل من استشهد في سبيل الله، قتلها الشَّقيُّ أبو جهل، أكرهها على الكفر، فأبت إلَّا الإسلام، فطعنها برمح فقتلها، فانتقم الله منه يوم بدر، فكان من الصَّرعى في القَليب، قَليب بدر، وكان هو أبوه وأمُّه ممَّن يعذَّبون في الله بالأبطح، فيمرُّ عليهم النَّبيُّ صلعم فيقول: «صبراً آل ياسر، موعدكم الجنَّة».
          قال الكرمانيُّ(2) : رهن ياسر في القمار، هو وآله وولده، فقمروهم، فصاروا بذلك عبيداً للقامر، فأعزَّهم الله تعالى بالإسلام، فنجوا من الرِّقِّ.
          قال ابن الأثير(3) : قال أهل العلم بالنَّسب: إنَّ ياسراً عربيٌّ قحطانيٌّ من عَنْس إلَّا أنَّ ابنه عمَّاراً مولى لبني مخزوم؛ لأنَّ أباه تزوج سميَّة أمة لبني مخزوم، فولدت عمَّاراً، وكان سبب قدوم ياسر مكَّة أنَّه قدم هو وأخوان له يقال لهما: الحارث ومالك. في طلب أخ لهما رابع، فرجعا إلى اليمن، وأقام ياسر بمكَّة، فحالف أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله، وتزوَّج أَمَةً له تسمَّى سُميَّة، فولدت عماراً، فأعتقه أبو حذيفة، وأسلم عمَّار، ورسول الله صلعم في دار الأرقم، تحت الصَّفا، قال عمَّار: لقيت صُهيبَ بنَ سِنَان على دار الأرقم، ورسول الله صلعم فيها، فقلت: ما تريد؟ فقال: وما تريد أنت؟ فقلت: أردت أن أدخل على محمَّد وأسمع كلامه. فقال: وأنا أيضاً أريد ذلك. قال: فدخلنا، فعرض علينا الإسلام، فأسلمنا(4) معاً. /
           وكان إسلامهما بعد بضعة وثلاثين رجلاً.
          قال همَّام: سمعت عمَّاراً يقول: رأيت رسول الله صلعم وما معه إلَّا خمسة أعبد، وامرأتان، وأبو بكر.
          قال مجاهد: أوَّل من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلعم، وأبو بكر، وبلال، وخبَّاب، وصهيب، وعمَّار، وأمُّه سميَّة.
          قال الرُّشاطيُّ: فيه نزل قوله تعالى: { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } [الأنعام:122] قال: هو عمَّار بن ياسر { كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ } [الأنعام:122] هو أبو جهل.
          ولمَّا قتل عمار أمر عليُّ بن أبي طالب أن تضع الحرب أوزارها، ونادى منادي عليٍّ: ألا من كان في شكٍّ ممَّا بيني وبين معاوية فليعلمه، فإنَّ عمَّاراً قد قتل، وقد قال صلعم: «يا ويح عمَّار، تقتله الفئة الباغية». فأجابه معاوية: إنَّما قتله من أخرجه من بيته. فأجابه عليٌّ يردُّ عليه قوله: فرسول الله صلعم قتل حمزة وجميع من أخرجه(5) يوم أحد!
          قال ابن(6) الأثير: نزل قوله تعالى: { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } [النحل:106] في عمَّار (حين) أخذه المشركون فعذَّبوه، فلم يتركوه حتَّى سبَّ النَّبيَّ صلعم، وذكر آلهتهم بخير، [ ثمَّ تركوه، فلمَّا أتى رسول الله صلعم وهو يبكِّي عينيه، فقال: «ما رواءك؟» قال: شرٌّ يا رسول الله، ما تركت حتَّى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير] . قال: «كيف تجد قلبك»؟ قال: مطمئنًّا بالإيمان. قال: «أخذوك فغطُّوك في الماء، فقلت كذا وكذا»؟ قال: نعم. قال: «فإن عادوا لك بمثله فعد لهم بمثله».
          قال سعيد بن جبير: قلت لابن عبَّاس: أكان(7) المشركون يبلغون من المسلمين من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم، والله إن كانوا ليضربون أحدهم، ويجيعونه ويعطشونه، حتَّى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدَّة الضُّرِّ الذي به، حتَّى إنَّه ليطيعهم ما سألوه من الفتنة، وحتَّى يقولوا: اللَّات والعزَّى إلهك من دون الله. فيقول: نعم. (وحتَّى إنَّ الجُعَل لتمرُّ بهم، فيقولون له: أتجعل هذا إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم). افتداء لما يبلغون من جهده. وهاجر إلى المدينة عمَّارٌ، وشهد بدراً وأحداً(8) والخندق، وجميع المشاهد مع رسول الله صلعم، وحضر بيعة الرِّضوان.
          قال حذيفة بن اليمان: قال رسول الله صلعم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمَّار، وتمسَّكوا بعهد ابن أمِّ عبد».
          قال خالد بن الوليد: كان بيني وبين عمَّار كلام، فأغلظت له في القول، فانطلق عمَّار يشكو إلى رسول الله صلعم، فجاء خالد _وهو يشكوه إلى رسول الله صلعم_ فجعل يغلظ عليه، ولا يزيده إلَّا غلظة، والنَّبيُّ صلعم ساكت لا يتكلم، فبكى عمَّار، وقال: يا رسول الله، ألا تراه؟ فرفع [رسول الله صلعم ] رأسه(9) ، فقال: «من عادى عمَّاراً عاداه الله، ومن أبغض عمَّاراً أبغضه الله». قال خالد: فخرجت، فما كان شيء أحبَّ إلي من رضا عمَّار، فلقيته، فرضي عنِّي.
          قال عليُّ بن أبي طالب: جاء عمَّار يستأذن على رسول الله صلعم، فقال: «ائذنوا له، (مرحباً) بالطَّيِّب المطيَّب».
          قالت عائشة: قال رسول الله صلعم: / «ما خُيِّر عمَّار بين أمرين إلَّا اختار أرشدهما».
          قال شعبة: قال رجل لعمَّار: أيُّها العبد الأجدع. قال عمَّار: سَبَبْتَ خَيْرَ أُذُنَيَّ. قال شعبة: وكانت أصيبت مع رسول الله صلعم. قال ابن الأثير(10) : وهذا وهم من شعبة، بل الصَّواب أنَّها أصيبت يوم اليمامة، يعني في زمن أبي بكر، في قتال(11) مسيلمة الكذَّاب، تحت راية خالد بن الوليد.
          قال: ومن مناقبه أنَّه أوَّل من بنى مسجداً في الإسلام، وذلك أنَّه لمَّا قدم رسول الله صلعم المدينة قال عمَّار: لم يكن بدٌّ من أن نجعل له مكاناً إذا استظلَّ من قائلته استظلَّ فيه، وصلَّى فيه. فجمع حجارة، فبنى مسجد قباء، فهو أوَّل مسجد بني، و(عمَّار) هو الذي بناه.
          [ومن مناقبه أنَّ الله تعالى أجاره من الشَّيطان على لسان نبيِّه، وقصَّته على مارواه الدَّميريُّ في حياة الحيوان(12) في مادَّة الجنِّ: إن عمَّار بن ياسر قال: قاتلت مع رسول الله صلعم الجنَّ والإنس. فسئل عن قتال الجنِّ، فقال: أرسلني رسول الله صلعم إلى بئر أستقي منها، فرأيت الشَّيطان في صورته، فصارعني، فصرعته، ثمَّ جعلت أدمي أنفه بفهر معي، أو بحجر. فقال صلعم: «إنَّ عمَّاراً لقي الشَّيطان عند البئر، فقاتله». فلمَّا رجعت سألني، فأخبرته الأمر. فكان أبو هريرة يقول: إنَّ عمَّاراً أجاره الله من الشَّيطان على لسان نبيِّه. وكذلك قال ابو الدَّرداء، كما وقع في البخاريِّ [خ¦3287] ] .
          قال ابن عمر: رأيت عمَّار بن ياسر يوم اليمامة في قتال مسيلمة على صخرة، قد أشرف(13) يصيح: يا مشعر المسلمين! أمن الجنَّة تفرُّون؟ إليَّ إليَّ، أنا عمَّار بن ياسر، هلمُّوا إليَّ. قال: وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت، وهي تذبذب، وهو يقاتل أشدَّ القتال.
          واستعمله عمر على الكوفة، وكتب إلى أهلها: أمَّا بعد، فإنِّي قد بعثت إليكم عمَّاراً أميراً، وعبد الله بن مسعود وزيراً ومعلِّماً، وهما من نجباء أصحاب محمَّد صلعم، فاقتدوا بهما. ولمَّا عزله عمر قال له: أساءك العزل؟ قال: والله إنِّي لقد ساءني الولاية، وساءني العزل.
          ثمَّ إنَّه [بعد ذلك] صحب عليًّا، وشهد معه الجمل وصفِّين [مع عليٍّ] ، فأبلى فيهما، وأبان عن نجدة عظيمة، قال أبو عبد الرَّحمن السُّلَمي: لقد شهدنا صفِّين مع عليٍّ، فرأيت عمَّار بن ياسر لا يأخذ في ناحية، ولا واد من أودية صفِّين إلَّا رأيت أصحاب رسول الله صلعم يتبعونه، كأنَّه عَلَم لهم، وسمعته يومئذ يقول لهاشم بن عتبة بن أبي وقَّاص: يا هاشم، تفرُّ من الجنَّة! الجنَّة تحت بارقة السُّيوف، اليوم ألقى الأحبَّة محمَّداً وحزبه، والله لو ضربونا حتَّى يبلغوا(14) [بنا] شعاف(15) هَجَر لعلمت أَنَّا على حقٍّ، وأنَّهم على الباطل.
          قال أبو البختريُّ: قال عمَّار يوم صفِّين: إيتوني بشربة لبن، فقد قال لي رسول الله صلعم: «آخر شربة تشربها [من الدنيا] شربة لبن». فأتى بشربة فشربها، فقاتل حتَّى قتل، وكان عمره يوم قتل تسعين وأربع، أو ثلاث، أو إحدى سنة، وذكرنا له في ترجمة سلمان منقبة فراجعها، وشهد خزيمة بن ثابت الجمل، وهو لا يسلُّ سيفاً، وشهد صفِّين، ولم يقاتل، وقال: لا أقاتل حتَّى يقتل عمَّار، وأنظر من يقتله، فإنِّي سمعت رسول الله صلعم يقول: «تقتله الفئة الباغية». ولما قتل عمَّار قال: ادفنوني بثيابي، فإنِّي مخاصم، وقد اختلف في قاتله، فقيل: قتله أبو الغادية(16) المزنيُّ، وقيل: الجهنيُّ. طعنه فسقط، فأكب عليه آخر، فاحتزَّ رأسه، فأقبلا يختصمان، كلٌّ منهم يقول: أنا قتلته. فقال عمر وبن العاص: والله إن تختصمان إلَّا في الَّنار، لوددت أنِّي متُّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وقيل: / حمل عليه عقبة بن عامر الجهنيُّ، وعمرو بن الحارث الخولانيُّ، وشريك بن سلمة(17) المراديُّ، فقتلوه، وكان قتله في ربيع الأوَّل سنة سبع وثلاثين، ودفنه عليٌّ بثيابه، ولم يغسِّله، وروى أهل الكوفة أنَّه صلَّى عليه. قال ابن الأثير(18) : وهو مذهبهم في الشَّهيد، [أنَّه] يصلَّى عليه، ولا يغسَّل، وكان [عمَّار] آدمَ طويلاً، أشهل العينين، بعيد ما بين المَنْكِبين، وكان لا يغيِّر شيبه، وكان أصلع، في مقدَّم رأسه شعرات.
          روى عن رسول الله صلعم اثنين وستين حديثاً، للبخاريِّ منها خمسة أحاديث، وجزم الكرمانيُّ(19) بهجرته إلى الحبشة. قال صلعم: «عمَّار ملئ إيماناً إلى أخمص قدميه». قال الكرمانيُّ: وعمَّار أوصى أن يدفن بثيابه؛ فلذا فعله عليٌّ ☻.
          قال الكلاباذيُّ(20) : روى عنه عبد الرَّحمن بن أَبْزَى، وأبو وائل، وهمَّام، نقل عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: تعليقاً، في باب إفشاء السَّلام، من كتاب الإيمان [خ¦قبل 28] ، وموصولاً في كتاب التَّيمُّم [خ¦338] . قتل يوم الأربعاء، لسبع خلون من صفر، بصفِّين، سنة سبع وثلاثين. وقد مضى ما يخالف ذلك في الشَّهر.


[1] كذا عندنا، وهو ضبط لم يسبق إليه، وفي باقي المصادر (المَذْحِجي)، وهو الوجه.
[2] شرح البخاري:1/132.
[3] أسد الغابة:4/122، وفيه: عُرَني، قحطاني، مَذْحجي، ولعل لفظة (عرني) مصحفة عن عربي.
[4] في (ن) تصحيفاً: (فاستلمنا).
[5] في (ن) تكرر قوله: (من أخرجه).
[6] أسد الغابة:4/123.
[7] في (ن): (كان).
[8] في (ن) تصحيفاً: (وأصاب).
[9] في غير (ن): (فرفع رأسه صلعم ).
[10] أسد الغابة:4/125، وفيه: سيِّب خَبَر أذني، وهو تصحيف، والمثبت هو الوجه، والخبر في سير أعلام النبلاء:1/423، وطبقات ابن سعد:3/254.
[11] في غير (ن): (قتل).
[12] 1/297.
[13] في غير (ن): (استشرف).
[14] في غير (ن): (بلغوا).
[15] في الأصول كلها (شعاف) وعند ابن الأثير في أسد الغابة 4/127: (سعفات).
[16] في الأصول كلها (الغاوية) وعند ابن الأثير في أسد الغابة (الغادية)، وكذا هو في أكثر المصادر، وهو يَسَار بن سَبُع، له صحبة ورواية عن النبي صلعم، يقال: هو الذي قتل عمار بن ياسر، الإكمال لابن ماكولا:6/15، ولعل ما عندنا تصحيف.
[17] في غير (ن) (شريك بن مسلمة).
[18] في أسد الغابة:4/127.
[19] شرح البخاري:1/132.
[20] الهداية والإرشاد:2/592.