غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

عمرو بن العاصي

          992 # عمرو بن العاصي _إثباتُ الياء في العاصي، أَوْلى من حذفه والاكتفاء بالكسرة. قاله النَّوويُّ(1)_ وهو ابن وائل بن هاشم السَّهْمِيُّ، الصَّحابيُّ، والد الصَّحابي عبد الله.
          أسلم عام الحديبية هو وخالد بن الوليد، ومضى ذلك في ترجمة خالد، فراجعها، وفتح مصر، وتولَّى إمرتها مرَّتين، وبها توفِّي، وأمُّه النَّابغة بنت حَرْمَلَةَ بنِ شَيبة، قرشيٌّ، مدنيٌّ، وهو أخو هشام بن العاصي، وأكبر منه.
          روى عن رسول الله صلعم سبعة وثلاثين حديثاً، قاله ابن حزم، يكنَّى أبا عبد الله، وأبا محمَّد، وأخوه لأمِّه عَمْرو بن أُثَاثَةَ العَدَوِيُّ، وعُقبةُ بن نافع.
          قال ابن الأثير(2) : أمُّه سلمى بنت حَرْمَلَةَ، والنَّابغةُ لقب عليها، أصابتها رماح العرب، فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكِهُ بنُ المُغيرة، ثمَّ اشتراها عبد الله (بن جُدْعان)، ثمَّ صارت إلى العاصي(3) بن وائل، فأنجبت.
          هو الذي أرسله قريش إلى النَّجاشيِّ ليسلم إليهم مَنْ عنده من المسلمين، جعفر ومن معه، فلم يفعل، وقال له النَّجاشيُّ: يا عمرو، كيف يعزب عنك أمر ابن عمِّك؟ فوالله إنَّه رسول الله حقًّا. قال: أنت تقول ذلك؟ قال: إي والله، فأطعني. فخرج من عنده مهاجراً إلى النَّبيِّ صلعم، فأسلم عام خيبر على الأصحِّ، وقيل: أسلم عند النَّجاشيِّ، ثمَّ هاجر. وقيل: أسلم في صفر، سنة ثمان، قبل الفتح بستَّة أشهر، وكان قد هَمَّ بالانصراف من عند النَّجاشيِّ، ولكن توقَّف إلى هذا الوقت، وقدم هو وخالدُ بن الوليد، وعثمان بن طلحة العَبْدَرِيُّ، فتقدَّم خالد، فأسلم وبايع، ثمَّ تقدَّم عثمان، فأسلم وبايع، ثمَّ عمرو، فاسلم وبايع على أن يغفر له ما كان قبله، فقال صلعم: «يا عمرو إنَّ الإسلام والهجرة يَجُبَّان ما قبلهما». ثمَّ بعثه رسول الله صلعم على سريَّة ذات السّلاسل _بضمِّ المهملة الأولى وفتحها، وكسر الثَّانية_ ماء بأرض جُذام، بينه وبين المدينة عشرة أيام، وقال الزَّركشيُّ: إنَّما سمِّيت بذات السَّلاسل؛ لأنَّ المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفرُّوا، وكانت في جمادى الآخرة، سنة ثمان، وذلك أنَّه بلغ النَّبيَّ صلعم أنَّ جمعاً من قُضاعة تجمَّعوا، يريدون أن يدنوا إلى أطراف المدينة، فدعا صلعم عمرو بن العاص، / وعقد له لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء، وبعثه(4) على ثلاث مئة من سراة المهاجرين والأنصار، ومعهم ثلاثون فرساً، وأمره أن يستعين بمن مرَّ بهم من بَلْيٍ وعُذْرَةَ وَبَلْقَيْنِ، فسار اللَّيل، وكَمَنَ النَّهار، فلمَّا قرب من القوم بلغه أنَّ لهم جمعاً كثيراً، فبعث رافعَ بنَ مَكِيْث(5) الجُهنيَّ إلى رسول الله صلعم يستمدُّه، فأرسل(6) إليه أبا عبيدة بن الجرَّاح، في مئتين، وعقد له لواء، وفيهم أبو بكر وعمر، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعاً، ولا يختلفا، فلحق أبو عبيدة بعمرو، فلمَّا جاءت(7) الصَّلاة أراد أبو عبيدة أن يؤمَّ النَّاس، فقال عمرو: إنَّما جئت مدداً لي. فقال أبو عبيدة: لا، ولكنِّي أنا على ما أنا عليه، وأنت على ما أنت عليه. وكان أبو عبيدة رجلاً سهلاً ليِّناً، هيِّناً عليه [أمر الدُّنيا] ، فقال له عمرو: بل أنت مدد لي(8) . فقال أبو عبيدة: إنَّ رسول الله صلعم قال لي: «لا تختلفا». وإنَّك إن عصيتني أطعتك. فقال عمرو:(9) إنِّي أمير عليك. فقال: فدونك فصلِّ بنا. فصلَّى عمرو بالنَّاس؛ حتَّى رجعوا، وسار حتَّى وطئ بلاد بَلْيٍ ودَوْحُها؛ حتَّى أتى إلى أقصى بلادهم، وبلاد عذرة(10) وبلقين، ولقي في آخر ذلك جمعاً، فحمل عليهم المسلمون، فتفرَّقوا في البلاد وهربوا، وبعث عوف بن مالك الأشجعيَّ بريداً إلى رسول الله صلعم فأخبرهم بما كان في غزوتهم، قال عامر: وكانوا قد أمروا أن يغيروا على بكر، فانطلق عمرو، وأغار على قُضاعة؛ لأنَّ بكراً أخواله، فانطلق(11) [المغيرة بن شعبة إلى أبي عبيدة فقال: إنَّ رسول الله صلعم أمَّرك علينا، وإنَّ ابن فلان قد اتبَّع أمر القوم، وليس لك معه أمر] . فقال: إنَّ رسول الله صلعم أَمَرنا أن نتطاوع، فأنا أطيع(12) رسول الله صلعم، وإن عصاه عمرو. قال: وكان أبو عبيدة متوليًّا على المهاجرين، وعمرو على الأعراب.
          قال ابن الأثير: بعث رسول الله صلعم (عَمْراً) يستنفر الأعراب إلى الإسلام(13) ، وذلك أنَّ أمَّ العاصي بن وائل امرأة من بَلْيٍ، فبعثه صلعم يستألفهم(14) بذلك؛ حتَّى وصلوا إلى ذات السَّلاسل. فساق القصَّة، كما ذكرنا، قال: واستعمله رسول الله صلعم على عُمان، فلم يزل عليها إلى أن توفِّي رسول الله صلعم.
          قال صلعم: «أسلم النَّاس وآمن(15) عمرو بن العاص». وقال: «إنَّ عمرو بن العاصي من صالحي قريش». ثمَّ إنَّ عَمْراً بعثه أبو بكر أميراً على الشَّام، فشهد فتوحه(16) ، وولي فلسطين لعمر بن الخطَّاب، ثمَّ سيَّره عمر في جيش إلى مصر سنة عشرين ففتحها، ولم يزل والياً عليها إلى أن مات عمر، فأمَّره عثمان عليها أربع سنين، ثمَّ عزله عنها، واستعمل عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، فاعتزل عمرو عنها بفلسطين، وكان يأتي المدينة أحياناً، ويطعن على عثمان، فلمَّا قتل عثمان سار إلى معاوية وعاضده، وشهد معه صِفِّين، ومقامه فيها مشهور، وهو أحد الحكمين، وخادَعَ أبا موسى فانخدع، وكان شديداً على عليِّ بن أبي طالب، ثمَّ سيَّره معاوية إلى مصر، فاستنقذها من يد / محمَّد بن أبي بكر، وهو عامل لعليٍّ عليها، واستعمله معاوية عليها إلى أن مات، وكان يخضب بالسَّواد. قاله في أسد الغابة، كان من شجعان العرب وأبطالهم، وكان له شعر، فمن ذلك ما يخاطب به عُمارة بن الوليد عند النَّجاشيِّ وكان بينهما شرٌّ قديم _وهو من البحر الطَّويل وقد وقع القبض في العروض والضَّرب والحشو_(17):
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبُّه                     ولم يَنْهَ قلباً غاوياً حيث يَمَّمَا
قضى وطراً منه وعاد بسُبَّةٍ                     إذا ذُكرتْ أمثالُها تملأ الفمَا
          ولمَّا حضرته الوفاة قال: اللهم إنَّك أمرتني فلم أئتمر، وزجرتني فلم أنزجر. ووضع يده على موضع الغُلِّ، وقال: اللهم لا قويٌّ فأنتصر، ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا إله إلا أنت. ولم يزل يردِّدها حتَّى مات.
          قال عبد الرَّحمن بن شِمَاسة: لمَّا حضر عمرو بن العاصي الوفاة بكى، فقال ابنه عبد الله: لمَ تبكي؟ أجزعاً من الموت؟ قال: لا والله، ولكن لِمَا بعد الموت. فقال: كنتَ على خير، فذكر صحبتَه لرسول الله صلعم، وفتوحَه الشَّام ومصر. فقال عمرو: يا عبد الله، تركت أفضل من ذلك كلِّه، شهادة أن لا إله إلَّا الله وأنَّ محمَّداً رسول الله صلعم، إنِّي كنت على أطباق ثلاث، كنت أوَّل شيء كافراً، فكنت أشدَّ النَّاس على رسول الله صلعم، فلو متُّ حينئذ لوجبت لي النَّار، فلمَّا أسلمت وبايعت كنت أشدَّ النَّاس حياءً من رسول الله صلعم، فلو متُّ على تلك الحالة قال النَّاس: هنيئاً لعمرو، أسلم، وكان على خير، ومات فيرجى له الجنَّة. ثمَّ تلبَّست بالسُّلطان وأشياء، فلا أدري أعليَّ أم لي؟ فإذا متُّ فلا تبكيَّنَّ عليَّ باكية، ولا يتبعني مادح، ولا نار، وشدُّوا عليَّ إزاري، فإنِّي مخاصم ربِّي، وسُنُّوا عليَّ التَّراب من جنبي الأيسر، ولا تجعلنَّ في قبري حجراً ولا خشبة، وإذا واريتموني فاقعدوا عندي قدر نحر جزور وتقطيعه؛ حتَّى استأنس بكم، وأنظر(18) ماذا أؤامر رسل ربِّي.
          [قال الدَّميريُّ في حياة الحيوان في مادَّة الجزور(19) : إنَّ من جملة تركة عمرو تسعة أرادب ذهب، وإنَّما ضرب المثل بنحر الجزور وقسمة لحمه؛ لأنَّه كان في أوَّل أمره جزَّاراً بمكَّة، أو لأنَّه كان أمير مصر، وهو أكبر أهلها، فأشبه الجزور في الكبر بالنِّسبة إلى بهيمة الأنعام، ونحره موته، وتفرقة لحمه قسمة أمواله] .
          قال عبد الله بن عمرو بن العاصي: كان أبي كثيراً ما يقول: إنِّي لأعجب من الرَّجل ينزل به الموت، ومعه عقله ولسانه، كيف لا يحدِّث به، ويصفُه. قال: فلمَّا نزل به الموت قلت [له] : يا أبت، كنت تقول: كذا وكذا. قال: يا بنيَّ الموت أعظم من أن يوصف، ولكن(20) سأصف لك منه شيئاً، والله لكأنَّ على كتفي جبالَ رضوى وتهامة، وكأنَّ روحي تخرج من ثَقْب إبرة، وكأنَّ في جوفي شوك السَّعْدانِ، ولكأنَّ السَّماء انطبقت على الأرض، وأنا بينهما.
          قال الكلاباذيُّ(21) : روى عنه قيس بن أبي حازم، و [أبو] عثمان النَّهدي، ومولاه أبو قيس.
          نقل عنه البخاريُّ بالواسطة، في الأدب [خ¦5990] ، ومناقب أبي بكر [خ¦3662] ، والاعتصام [خ¦7352] . / وكان عمرو قصير القامة، توفِّي بمصر سنة إحدى، أو اثنتين(22) ، أو ثلاث وأربعين، ليلة الفطر، ولاية (يزيد بن) معاوية، عن سبعين سنة، وصلَّى عليه ابنه عبد الله، ودفن بالمقطَّم(23) ، ثمَّ صلَّى العيد، وولاه معاوية بعد أبيه، ثمَّ عزله، وولَّى أخاه عتبة بن أبي سفيان.


[1] تهذيب الأسماء واللغات:2/30.
[2] أسد الغابة:4/232.
[3] في (ف): (العاصم)، وهو تصحيف.
[4] في غير (ن): (وبعث).
[5] في غير (ن): (كميت) وهو تصحيف.
[6] في (ن): (وبعث).
[7] في (ن): (حان).
[8] في غير (ن): (مددي).
[9] جاء في غير (ن) زيادة هنا: (أمَّرك علينا، وإنَّ ابن فلان قد اتَّبع أمر القوم، وليس لك معه أمر. فقال: إنَّ رسول الله صلعم قال): وهذا قول المغيرة بن شعبة لأبي عبيدة تقدم عن موضعه وسيأتي ذكره.
[10] في غير (ن): (عدن) وهو تصحيف.
[11] ما بين حاصرتين سقط من الأصول كلها سوى (ن) وجاء مكانها (أبو عبيدة) فاضطربت العبارة، وقد جاء في هامش الأصل منها: (بل أبي عبيدة) وبجانبها كلمة (صح) والخبر في أسد الغابة:4/232.
[12] في (ن) تصحيفاً: (أطع).
[13] كذا في أصولنا وفي أسد الغابة: (إلى الشام) وهو الوجه، وما في الأصول تصحيف والله أعلم.
[14] في (ن): (يستأنسهم).
[15] في (ن) تصحيفاً: (وابن).
[16] في (ن): (فشهدها فتوجه).
[17] الأبيات مع ترجمة عمرو بن العاصي ☺ في أسد الغابة:4/234، والرواية فيه: (وغادر سنة)، وفي تهذيب الكمال للمزي:22/83، والرواية عنده كما عندنا، وفي سير أعلام النبلاء:3/58 وفيه: (وغادرسبة).
[18] في (ن): (وانظروا) ولا يصح المعنى بها.
[19] حياة الحيوان الكبرى:1/278-280.
[20] في غير (ن): (ولكني).
[21] الهداية والإرشاد:2/535.
[22] في (ن): (أو اثنين).
[23] في الأصول كلها: (بالمعظم) وهو تصحيف.