غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

عمر بن الخطاب

          962 # عمر بن الخطَّاب بن نُفَيْل _بضمِّ النُّون، وفتح الفاء_ بن عبد العزَّى، أبو حفص العَدَوِيُّ، القرشيُّ، المدنيُّ [سكناً، المكِّيُّ أصلاً؛ لأنه قرشيٌّ] ، الصَّحابيُّ، أخو زيد بن الخطَّاب، وأمُّه حَنْتَمَةُ بنت هاشم بن المُغيرة بن عبد الله، وقيل: بنت هشام بن المغيرة. فعلى هذا تكون أخت أبي جهل، وعلى الأول بنت عمِّه. قال ابن عبد البرِّ(1) : من قال: إنَّها بنت هشام. فقد أخطأ، وهاشم وهشام أخوان، [فهاشم والد حنتمة،] فهشام والد الحارث، وأبي جهل، وكان يقال لهاشم جدِّ عمر: ذو الرِّمحين. انتهى. قلت: لكن قال ابن منده: أمُّ عمر أخت أبي جهل. وهو زعيم عظيم في معرفة الرِّجال، وقال أبو نُعيم: حنتمة أمُّ عمر بنت أخت أبي جهل، وهو خالها. قال ابن الأثير: يجتمع عمر وسعيد بن زيد في نُفيل.
          ولد عمر بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، وكان من أشراف قريش، وإليه كانت السِّفارة في الجاهليَّة، وذلك أنَّ قريشاً إذا وقعت بينهم، أو (بينهم) وبين غيرهم حرب بعثوه سفيراً، وإن نافرهم منافر، أو فاخرهم مفاخر رضوا به، وبعثوه مفاخراً ومنافراً.
          وكان ☺ أَمْهَقَ، تعلوه حمرة، طُوالاً، أبلجَ، أجلحَ _يعني أصلع_ شديد حمرة العينين، في عارضه خفَّة، وكان أعسر يَسَر، أعني: يعمل بيديه جميعاً، وكان طويلاً، أرفع النَّاس، كأنَّه راكب على دابَّة، وقد تغيَّر(2) عام الرَّمادة، وكانت سنة قحط، لا يوافقه أكل الزَّيت، وجعل يتناول من الزَّيت؛ لأنَّه حلف لا يأكل السَّمن واللَّبن(3) حتَّى يخصب النَّاس، فتغيَّر لونه.
          قال سِمَاك: كان عمر أرفع. [قال:] والأرفع الذي يتدانى قدماه إذا مشى. قال الواقديُّ: لا يعرف عندنا أنَّ عمر كان آدم، ومن وصفه بذلك، فكأنَّه رآه عام الرَّمادة. قال أبو عمر(4) : والأكثر عند أهل العلم أنَّه كان آدم شديد الأدمة، وكان يخضب بالحنَّاء، وهو أوَّل من اتَّخذ الدُّرَّة، وأوَّل من جمع النَّاس على قيام رمضان، يعني صلاة التَّراويح، وأوَّل من سمِّي أمير المؤمنين، وأوَّل من حكم بين النَّاس بعد رسول الله صلعم، وذلك أنَّ أبا بكر لمَّا تولَّى اشتغل(5) بالنَّاس، فنصَّب عمر ليحكم(6) بين الخصمين، وأوَّل من كتب التواريخ، وأوَّل من عَسَّ في إمرته، وأوَّل من فتح الفتوح، ووضع الخراج، ومَصَّر الأمصار، واستقضى القضاة، ودوَّن الدِّيوان(7) ، وفرض العطايا، وحجَّ بأزواج النَّبيِّ(8) صلعم (في آخر حجَّة حجَّها).
          - ذكر إسلامه ☺:
          قال ابن الأثير(9) : لمَّا بعث الله تعالى رسوله كان عمر شديداً عليه وعلى / المسلمين، ثمَّ أسلم بعد أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة، وقيل: كان قد أسلم تسعة وثلاثون رجلاً وامرأة، وأسلم عمر على رأس أربعين، فنزل جبريل بقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال:64] وقيل غير ذلك، وكان صلعم قد دعا، وقال: «اللهم أعزَّ الإسلام بأحبِّ الرَّجلين إليك، عمر بن الخطَّاب، أو عمرو بن هشام». يعني أبا جهل، فقبل الدُّعاء في ابن الخطَّاب، قالت عائشة: ألحَّ أبو بكر على رسول الله صلعم في الظُّهور، فقال: «يا أبا بكر، إنَّا قليل». فلم يزل به حتَّى ظهر، وتفرَّق المسلمون، وهم تسعة وثلاثون في نواحي المسجد، كلُّ رجل في عشيرته، فقام أبو بكر في النَّاس خطيباً، فكان أوَّل خطيب دعا إلى الله ورسوله، وثار المشركون على أبي بكر، فضربوه ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عُتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفين، ويحرفهما لوجهه حتَّى ما يعرف أنفه من وجهه من الشِّجاج والورم، وجاء بنو تيم تتعادى، فأجلوا المشركين عن أبي بكر، وحملوه وأدخلوه منزله، ولا يشكُّون في موته، ثمَّ رجعوا، فدخلوا المسجد، فقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلنَّ عتبة. ورجعوا إليه، فجعل أبو قحافة يتكلَّم مع أبي بكر، فتكلَّم آخر النَّهار، فقال: ما فعل رسول الله صلعم ؟ فنالوا منه بألسنتهم، وعذلوه، وقالوا: كم تذكر محمَّداً! أما تدعه في السَّرَّاء والضَّرَّاء؟ ثمَّ قالوا(10) لأمِّه أمِّ الخير بنت صخر: انظري لعلك تسقيه، أو تطعميه. فلمَّا خلت به، وألحَّت عليه جعل يقول: ما فعل رسول الله صلعم ؟ قالت: ما لي علم به. فقال: اذهبي إلى أمِّ جميل بنت الخطَّاب، فاسأليها عنه. فأتتها، فسألتها، فقالت: ما أعرف أبا بكر، ولا محمَّد بن عبد الله. وكانت تكتم إسلامها خوفاً، ثمَّ قالت: إن أحببت جئت معك إلى ابنك. قالت: نعم. فمضتا، فوجدت أبا بكر صريعاً دنفاً، فصاحت أمُّ جميل، وأعلنت، فقالت: والله إنَّ قوماً نالوا منك هذا لأهل فسوق وكفر، وإنِّي لأرجو أن ينتقم الله لك منهم(11) . قال: فما فعل رسول الله صلعم ؟ قالت: هذه أمُّك تسمع. قال: لا عليك منها. قالت: سالم صالح. قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم. قال: فإنَّ لله عليَّ نذراً(12) أن لا أذوق طعاماً، و(لا أذوق) شراباً حتَّى آتي رسول الله صلعم. فأمهلناه حتَّى إذا هدأت الرِّجْلُ، وسكن النَّاس خرجتا به يتَّكئ عليهما، فلمَّا أدخل عليه، أكبَّ عليه رسول الله صلعم والمسلمون، ورقَّ عليه رقَّة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمِّي، ليس بي شيء إلا(13) ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمِّي برَّة بولدها(14) ، وأنت مبارك، فادع الله لها؛ لعلَّ الله يستنقذها بك من النَّار. فدعا لها رسول الله صلعم، ودعاها إلى الإسلام، فأسلمت، وكان حمزة بن عبد المطلب يوم ضرب غائباً، فدعا رسول الله صلعم لعمر بن الخطَّاب، ولأبي جهل / يوم الأربعاء، وأسلم عمر يوم الخميس، فكبَّر صلعم وأهل البيت تكبيرة سمعت بأعلى مكَّة، فقال عمر: يا رسول الله، علامَ نخفي ديننا، ونحن على الحقِّ، ويظهرون دينهم، وهم على الباطل؟ فقال: «إنَّا قليل، وقد رأيت ما لقينا بالأمس». فقال: والذي بعثك بالحقِّ، لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلَّا جلست فيه بالإسلام. فخرج، فطاف بالبيت، ثمَّ مرَّ بقريش، وهي تنظره، فقال أبو جهل: يا عمر، زعم فلان أنَّك صبأت. قال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمَّداً رسول الله، وعبده. فوثب المشركون عليه، فوثب عمر على عُتبة بن ربيعة، فبرك عليه، وجعل يضربه، وأدخل أصبعيه في عينيه، فجعل عتبة يصيح، وتنحَّى النَّاس عنه، فجعل لا يدنو منه أحد إلَّا وضعه تحته، فانحجز النَّاس عنه، واتَّبع المجالس التي كان يجلس فيها بالكفر، يظهر فيها الإيمان، ثمَّ انصرف إلى رسول الله صلعم، وهو ظاهر عليهم، فقال: ما يجلسك، بأبي أنت وأمِّي، ما بقي مجلس جلست فيه بالكفر إلَّا أظهرت فيه الإيمان غير خائف، ولا هائب. فخرج، وعمر أمامه، وحمزة بن عبد المطَّلب؛ حتَّى طاف بالبيت، وصلَّى الظُّهر معلناً، ثمَّ انصرف.
          قال ابن مسعود: ما زلنا أعزَّة منذ أسلم عمر، والله لقد رأيتنا، وما نستطيع أن نصلِّي بالكعبة ظاهرين حتَّى أسلم عمر، فقاتلهم؛ حتَّى تركونا فصلَّينا.
          قال ابن عبَّاس: لمَّا أسلم عمر قال المشركون: قد انتصف القوم منَّا. قال الزُّهريُّ، وداود بن الحصين: لمَّا أسلم عمر نزل جبريل، فقال: يا محمَّد، استبشر أهل السَّماء بإسلام عمر. قال صهيب: لمَّا أسلم عمر جلسنا حول البيت حلقاً، وطفنا، وانتصفنا ممَّن غلظ علينا.
          قال عمر: خرجت أتعرَّض(15) لرسول الله صلعم قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقَّة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، فقلت: هذا والله شاعر، كما قال قريش. فقرأ: { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ }(16) [الحاقة:41] قال عمر: فقلت: كاهن. فقرأ: { وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } [الحاقة:42] فقلت: فماذا يكون؟ فقرأ: { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } [الحاقة:43] فقلت: لعلَّه يتقوَّل على الله. فقرأ: { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } [الحاقة:44-45] إلى آخر السُّورة، فوقع الإسلام منِّي كلَّ موقع.
          قال زيد بن أسلم، عن أبيه: قال عمر بن الخطَّاب: أتحبُّون أن أخبركم ببدء إسلامي؟ قلنا: نعم. قال: كنت من أشدِّ النَّاس على رسول الله صلعم، فبينا أنا في يوم حارٍّ، شديد الحرِّ بالهاجرة، في بعض طرق مكَّة، لقيني رجل من قريش، فقال: أين تريد؟ قلت: أريد ذاك الرَّجل الذي غير الدِّين. فقال: واعجباً لك يا ابن الخطَّاب، تزعم هذا، وقد دخل عليك من هذا الأمر في بيتك. قلت: وما ذاك؟ قال: أختك، قد أسلمت. قال: فرجعت مغضباً؛ حتَّى قرعت الباب، / وكان صلعم إذا أسلم الرَّجل والرَّجلان ممَّن لا شيء عنده ضمَّهما إلى رجل بيده قوَّة، فيكونان معه، ويصيبان من فضل طعامه، وكان قد ضمَّ إلى زوج أختي رجلين، فلمَّا قرعت الباب قيل: من هذا؟ قلت: ابن الخطَّاب. فبادر القوم، فتواروا منِّي، وقد كانوا يقرؤون صحيفة بين أيديهم، فنسوها، وتركوها وسط البيت، فقامت أختي، ففتحت الباب، فقلت: يا عدوَّة نفسها، صبأت؟ وضربتها بشيء في يدي على رأسها، فسال الدَّم، فلمَّا رأت الدَّم بكت، وقالت: يا ابن الخطَّاب! ما كنت فاعلاً فافعل، فقد أسلمت، ولست راجعة. فدخلت مغضباً حتَّى جلست على السَّرير، فنظرت إلى(17) الصَّحيفة وسط البيت، فقلت: ما هذه الصَّحيفة؟ أعطنيها. فقالت: لست من أهلها، أنت لا تغتسل من الجنابة، ولا تتوضَّأ، وهذا [كتاب] لا يمسُّه(18) إلَّا المطهَّرون. فلم أزل بها حتَّى أعطتنيها، فإذا فيها: ╖، فلمَّا قرأت: الرَّحمن الرَّحيم. ذعرتُ من ذلك، وألقيت الصَّحيفة، ثمَّ رجعت نفسي، فأخذتها، فإذا فيها: { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [الحديد:1] فكلَّما مرَّ بي اسم من أسماء الله تعالى ذعرت منه، ثمَّ ترجع إليَّ نفسي؛ حتَّى بلغت: { آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ } [الحديد:7] فقلت: أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أنَّ محمَّداً رسول الله. فلمَّا سمع القوم مقالتي خرجوا إلي متبادرين، فكبَّروا، ثمَّ قالوا: أبشر يا ابن الخطَّاب، إنَّ رسول الله صلعم دعا في يوم الاثنين _[وقد مرَّ أنَّه كان في يوم الأربعاء]_ قال: «اللهم أعزَّ دينك بأحبِّ الرَّجلين إليك، إمَّا أبي جهل، وإمَّا عمر بن الخطَّاب». وإنَّا لنرجو أن تكون الدَّعوة لك. قلت: أخبروني بمكان رسول الله. قالوا(19) : هو ببيت في أسفل الصَّفا. فأتيته، فقرعت الباب، فقيل: من هذا؟ قلت: ابن الخطَّاب. وقد علموا شدَّتي على رسول الله صلعم، وما علموا بإسلامي، فما اجترأ رجل منهم يفتح [لي] الباب، فقال صلعم: «افتحوا له، فإن يرد الله به خيراً يهده». ففتحوا، وأخذ رجلان بعضدي حتَّى جاءا بي إليه(20) صلعم، فقال: «خلُّوه». فجلست(21) بين يديه، فأخذ بمجمع قميصي، وجذبني(22) إليه، وقال: «أسلم يا ابن الخطَّاب، اللهم اهده». فقلت: أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأنَّك رسوله الله. فكبَّر المسلمون تكبيرة سمعت بطرف مكَّة، وقد كانوا مستخفين، ثمَّ خرجت، فكنت لا أشاء أن أرى رجلاً من المسلمين إذا أسلم يجتمع عليه فيضرب، ولا يصيبني من ذلك شيء، فقلت: ما هذا بشيء، فجئت إلى خالي، وكان شريفاً، فقرعت عليه الباب، فخرج إليَّ، فقلت: أعلمت أنِّي صبأت؟ قال: أوفعلت؟ قلت: نعم. قال: لا تفعل. قلت: قد فعلت. (قال: لا تفعل). ودخل، فأجاف الباب، يعني ردَّه، وأغلقه(23) دوني، فذهبت إلى رجل من عظماء قريش أيضاً، فقرعت عليه الباب، فقيل: من هذا؟ قلت: ابن الخطَّاب. فخرج إليَّ، فقلت له مثل مقالتي لخالي، فقال مثل ما قال، وفعل مثل ما فعل، فقلت: ما هذا بشيء. فقال لي رجل: أتحبُّ أن تظهر إسلامك؟ قلت: نعم. قال: إذا اجتمع النَّاس في الحِجْر، فائت فلاناً لرجل [لم] يكتم السِّرَّ، فقل له فيما بينك وبينه، فإنَّه سيظهره عليك. فلمَّا اجتمع النَّاس في الحِجْر جئت إلى الرَّجل، فأصغيت إليه، وقلت له: إنِّي صبأت. فرفع صوته، وقال: ألا إنَّ ابن الخطَّاب قد صبأ. /
          (فثار إليَّ النَّاس يضربوني وأضربهم، فقال خالي: ما لهذه الجماعة؟ قيل: إنَّ ابن الخطَّاب قد صبأ). فقام إلى الحِجْر، ثمَّ أشار بكمِّه: ألا إنِّي قد أجرت ابن أختي. فانكشف النَّاس عنِّي، فكنت لا أريد أرى رجلاً يضرب ولا يصيبني من ذلك شيء، فأتيت خالي، والنَّاس مجتمعون في الحجر، وقلت: إنَّ جوارك رَدٌّ عليك. قال: لا تفعل. قلت: بلى. فما زلت أضرب النَّاس ويضربونني؛ حتَّى أعزَّ الله الإسلام ونبيَّه.
          قال ابن إسحاق: بعث قريش عمر بن الخطَّاب، وهو مشرك في طلب رسول الله صلعم، وهو في دار في أصل الصَّفا، فلقيه النَّحَّام، وهو نُعيم بن عبد الله(24) ، أخو عَدِيِّ بن كعب، وكان قد أسلم، وعمر مقلِّد سيفه، فقال: يا عمر، أين تريد؟ فقال: أعمد إلى محمَّد هذا الذي سفَّه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وخالف جماعتنا. فقال النَّحَّام: والله لبئس المشي مشيت يا عمر، ولقد فرَّطت، وأردت هلكة عديِّ بن كعب، أو تراك تفلت من بني هاشم وبني زهرة، وقد قتلت محمَّداً؟ فتحاورا حتَّى ارتفعت أصواتهما، فقال له عمر: إنِّي لأظنُّك قد صبوت، ولو علمت ذلك لبدأت بك. فلمَّا رآى(25) النَّحَّام غير منته(26) ، قال: فإنِّي أخبرك أنَّ أهلك وأهل ختنك أسلموا، وتركوك وما أنت عليه من ضلالتك. فقال عمر: وأيُّهم؟ قال: ابن عمِّك، وأختك زوجته. فانطلق عمر حتَّى أتى أخته، وكان صلعم إذا أتاه أحد من أصحابه(27) من ذوي الحاجة نظر إلى أولي السَّعة، فيقول: عندك فلان. فوافق ذلك سعيد بن زيد، فدفع إليه رسول الله صلعم خبَّاب بن الأرتِّ، وقد أنزل الله تعالى { طه*مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } [طه:1-2] قال: وذكر نحو ما تقدَّم من القصَّة، فقال عمر عند ذلك: والله لنحن بالإسلام أحقُّ أن ينادى منَّا بالكفر، فنظهرنَّ(28) بمكَّة دين الله، فإن أراد قومنا بغياً علينا ناجزناهم، وإن قومنا أنصفونا قبلنا منهم. فخرج عمر وأصحابه، فجلسوا في المسجد، فلمَّا رأت قريش إسلام عمر سُقِطَ في أيديهم. قال ابن عمر: لمَّا أسلم عمر قال: أيُّ أهل مكَّة أنقل للحديث؟ قالوا: جميل بن معمر. فخرج عمر، وخرجت وراءه، وأنا غلام أعقل كلَّ ما رأيت؛ حتَّى أتى جميلاً، فقال: أعلمت أنِّي قد أسلمت؟ فوالله ما راجعه الكلام حتَّى قام يجرُّ رداءه، وخرج عمر يتبعه، وأنا مع أبي حتَّى إذا قام على باب المسجد، يعني الكعبة، صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، إنَّ عمر قد صبأ. فقال عمر: كذبت، ولكنِّي(29) أسلمت. فثاروا، فقاتلهم [وقاتلوه] حتَّى قامت الشَّمس على رؤوسهم، فَبَلَح(30) ، وعرَّشوا على رأسه قياماً، وهو يقول: اصنعوا ما بدا لكم، فأقسم بالله، لو كنَّا ثلاث مئة رجل، لقد تركتموها لنا أو تركناها لكم.
          قال ابن إسحاق: إنَّ الذي أجار عمر هو العاص بن وائل السَّهميُّ، والد عمرو، وإنَّما قال عمر: خالي؛ لأنَّ أمَّ عمر أمُّها / الشِّفاء بنت عبد القيس السَّهميَّة، وأهل الأمِّ أخوال، ولهذا قال صلعم لسعد بن أبي وقَّاص: «هذا خالي، فليرني امرؤ خاله». لأنَّه كان زهريًّا، وأمُّه صلعم كانت زهريَّة، قال: وكذلك القول في الخال الآخر الذي أغلق الباب في وجهه أنَّه أبو جهل، لكن هذا يمكن أن يكون حقيقة ومجازاً على الخلاف الذي مرَّ ذكره، وكان إسلام عمر السَّنة السَّادسة، وقيل لعائشة: من سمَّى عمر بالفاروق؟ قالت: رسول الله صلعم، قال: «إنَّ الله جعل الحقَّ على لسان عمر وقلبه، وهو الفاروق فرَّق الله به بين الحقِّ والباطل». قال ابن شهاب: بلغنا أنَّ أهل الكتاب كانوا أوَّل من قال لعمر: الفاروق.
          قال ابن مسعود: كان إسلام عمر فتحاً، وهجرته نصراً، وإمارته رحمة، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلِّي في المسجد حتَّى أسلم عمر، فلمَّا أسلم قاتلهم، حتَّى تركونا فصلَّينا.
          قال حذيفة: لمَّا أسلم عمر كان الإسلام كالرَّجل المقبل، لا يزداد إلَّا قرباً، فلمَّا قتل عمر كان الإسلام كالرَّجل المدبر، لا يزداد إلَّا بعداً.
          قال أبو هريرة: بينا نحن عند رسول الله قال: «بينا أنا نائم رأيتني في الجنَّة، فإذا امرأة تتوضَّأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من قريش. فظننت أنَّه لي، فقلت: من هو؟ قالوا: عمر بن الخطَّاب. فذكرت غيرتك، فولَّيت مدبراً». فبكى عمر، وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟ قال صلعم: «بينا أنا نائم رأيت النَّاس يعرضون عليَّ، وعليهم قُمُص، منها ما يبلغ الثَّدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض عليَّ عمر بن الخطَّاب، وعليه قميص يجرُّه». قالوا: فما أوَّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: «الدِّين». قال صلعم: «أتيت بقدح من لبن في المنام، فشربت منه حتَّى إنِّي لأرى الرِّيَّ(31) يخرج من أظفاري، ثمَّ أعطيت فضلي لعمر». قالوا: فما أوَّلت يا رسول الله؟ قال: «العلم». قال صلعم: «إنَّ أهل الدَّرجات يرونهم مَن تحتهم، كما يرى الكوكب الدُّرِّيُّ في أفق السَّماء، وإنَّ أبا بكر وعمر منهم، وانعما».
          قال ابن عبَّاس: لمَّا انتفض(32) حراء قال صلعم: «(اسكن حراء،) فما عليك إلَّا نبيٌّ وصدِّيق وشهيد». وكان عليه أبو بكر وعمر، وعثمان، وعليٌّ، وطلحة، والزُّبير، وعبد الرَّحمن، وسعد، وسعيد.
          قال صلعم: «وزيراي من أهل السَّماء جبريل وميكائيل، ووزيراي من أهل الأرض أبو بكر وعمر». قال عليُّ بن أبي طالب: كنت مع رسول الله صلعم فأقبل أبو بكر وعمر، فقال لي: «يا عليُّ، هذان سيِّدا كهول أهل الجنَّة من الأوَّلين والآخرين إلَّا النَّبيِّين والمرسلين». ثمَّ قال لي: «يا عليُّ، ألا(33) تخبرهما».
          وقال ابن عمر: ما نزل بالنَّاس أمر قطُّ فقالوا فيه، وقال فيه عمر بن الخطَّاب إلَّا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر، مثلما قال في أسرى بدر، فإنَّه أشار بقتلهم، وأشار غيره(34) بمفاداتهم، فأنزل الله: / { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [الأنفال:68] وقوله في حجاب أمَّهات المؤمنين، وقوله في الخمر، وقوله في الصَّلاة على المنافقين، وفي اتِّخاذ المقام مصلًّى، وغير ذلك.
          قال جابر: قال عمر لأبي بكر: يا خير النَّاس بعد رسول الله. أما إنَّك [إذ] قلت ذلك، فلقد سمعت رسول الله صلعم يقول: «ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر».
          قال عقبة بن عامر: قال صلعم: «لو كان بعدي نبيٌّ لكان عمر».
          قال بريدة: خرج رسول الله صلعم في بعض مغازيه، فلمَّا انصرف جاءت جارية سوداء، فقالت: يا رسول الله، إنِّي نذرت إن ردَّك الله سالماً أن أضرب بين يديك. قال: «إن كنت نذرت فاضربي، وإلَّا فلا». فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر، وهي تضرب، ثمَّ دخل عليٌّ، وهي تضرب، ثمَّ دخل عثمان، وهي تضرب، ثمَّ دخل عمر، فألقت الدُّفَّ تحت استها، وقعدت عليه. فقال صلعم: «إنَّ الشَّيطان ليخاف منك يا عمر، إنِّي كنت جالساً، [وهي تضرب،] فدخل أبو بكر، وهي تضرب، ثمَّ دخل عليٌّ، وهي تضرب، ثمَّ دخل عثمان، وهي تضرب، ثمَّ دخلت أنت يا عمر، فألقت الدُّفَّ».
          قالت عائشة: قال رسول الله صلعم: «قد كان في الأمم محدَّثون، فإن يكن في أمَّتي، فعمر بن الخطَّاب».
          قال الحسن: إنَّ عمر خطب إلى قوم من قريش، فردُّوه، وخطب إليهم المغيرة بن شعبة، فزوَّجوه، فقال صلعم: «ردُّوا رجلاً(35) ما في الأرض رجل خير منه».
          قال ابن عبَّاس: أكثروا ذكر عمر، فإنَّكم إذا ذكرتموه ذكرتم العدل، وإذا ذكرتم العدل ذكرتم الله تعالى.
          قال ابن عمر: كان عمر يخطب يوم الجمعة على منبر رسول الله صلعم، فعرض (له) في خطبته أن قال: يا ساريةُ الجبلَ الجبلَ، من استرعى الذئب فقد ظلم. فالتفت النَّاس بعضهم إلى بعض، فقال عليٌّ: صدق، والله ليخرجنَّ ممَّا قال. فلمَّا فرغ من صلاته، قال له عليُّ: شيء سنح لك في خطبتك، قال: ما هو؟ قال: قولك: يا سارية الجبل الجبل. قال: وهل كان ذلك منِّي؟ قال: نعم، وجميع أهل المسجد قد سمعوه. قال: وقع في خَلَدي أنَّ المشركين هزموا إخواننا، فركبوا أكتافهم، وإنَّهم يمرُّون بجبل، فإن عدلوا إليه قد ظفروا، وإن جاوزوه هلكوا، فخرج منِّي ما تزعم أنَّك سمعته. قال: فجاء البشير بالفتح بعد شهر، فذكر أنَّه سمع في ذلك اليوم في تلك السَّاعة حين جاوز الجبل صوتاً يشبه صوت عمر، يقول: يا سارية الجبل الجبل. قال: فعدلنا إليه، ففتح الله لنا.
          قال تاج الدِّين السُّبكيُّ في طبقاته الكبرى(36) : إنَّ المدينة زلزلت زلزلة عظيمة زمن عمر بن الخطَّاب، فضرب عمر بدرته الأرض، وقال: ألم أعدل عليك، فلم تزلزلت؟ فسكنت الزَّلزلة.
          قال عليٌّ: قال رسول الله صلعم: / «رحم الله أبا بكر، زوَّجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة، وأعتق بلالاً من ماله، رحم الله عمر، يقول الحقُّ وإن كان مرًّا».
          قال أبو هريرة: ركب رجل بقرة، فتكلَّمت، وقالت: أما والله ما لهذا خلقنا، ما خلقنا(37) إلَّا للحراثة. فقال القوم: سبحان الله! فقال صلعم: «أنا أشهد، وأبو بكر وعمر يشهدان». قال: وليسا ثَمَّ(38) .
          قال ابن عبَّاس: قال رسول الله صلعم: «إنَّ الله يباهي بالنَّاس يوم عرفة، ويباهي بعمر بن الخطَّاب خاصَّة».
          قال عبد الله بن مسعود: فضل النَّاسَ عمرُ بن الخطَّاب بأربع: في أمر الأسرى يوم بدر بقتلهم، ونزول الآية، وبذكر الحجاب لأمَّهات المؤمنين، فقال: يا رسول الله، يدخل عليك البرُّ والفاجر، فلو أمرت أمَّهات المؤمنين أن يحتجبن. فقالت زينب: إنَّك غدَّار يا ابن الخطَّاب، والوحي ينزل في بيوتنا! فأنزل الله تعالى: { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ } [الأحزاب:53] وبدعوة النَّبيِّ صلعم: «اللهم أيِّد الدِّين بعمر». قال برواية: في أبي بكر(39) .
          قال سُويدُ بنُ غَفَلَة: مررت بقوم من الشِّيعة يشتمون أبا بكر وعمر، وينتقصونهما، فأتيت عليَّ بن أبي طالب، فقلت: يا أمير المؤمنين، مررت بقوم من الشِّيعة ينتقصون أبا بكر وعمر، ولولا أنَّهم يعلمون أنَّك تضمر لهما(40) ذلك لما اجترؤوا عليه. فقال [عليٌّ] : معاذ الله أن أضمر لهما إلَّا على الجميل، ألا لعنة الله على من يضمر لهما إلَّا الحسن. ثمَّ نهض باكياً، فنادى: الصَّلاة جامعة. فاجتمع النَّاس، وإنَّه لعلى المنبر جالس، ودموعه تتحادر على لحيته البيضاء، ثمَّ قام، فخطب خطبة بليغة موجزة، ثمَّ قال: ما بال أقوام يذكرون سيِّدَي قريش، وأبوي المسلمين بما أنا عنه متنزَّه، وممَّا يقولون بريء، وعلى ما يقولون معاقِب، فوالذي فلق الحبَّة، وبرأ النَّسمة، لا يحبُّهما إلَّا كلُّ مؤمن تقيٍّ، ولا يبغضهما إلَّا كلُّ فاجر غويٍّ، أخوا رسول الله صلعم وصاحباه(41) ووزيراه.
          قال قَسَامَةُ بنُ زهير: وقف أعرابيٌّ على عمر، فقال منشداً _من البحر الرَّجز_:
يا عمرَ الخيرِ جُزِيْتَ الجَنَّهْ                     جَهِّزْ بناتي واكسهنَّهْ
أقسمُ باللهِ لتفعلنَّهْ
          قال: فإن لم أفعل، فماذا يكون؟ فقال:أقسم بالله لأمضينَّه
          قال: فإن مضيت يكون ماذا؟ قال: واللهِ عن حالي لتسألنَّهْ
ثمَّ تكون المسألاتُ(42) ثَمَّهْ                     والواقفُ المسؤولُ بينهنَّهْ
إمَّا إلى نارٍ وإمَّا جنَّهْ
          قال: فبكى عمر حتَّى بلَّ لحيته بدموعه، ثمَّ قال: يا غلام، أعطه قميصي هذا لذلك اليوم، لا لشعره، والله ما أملك قميصاً غيره.
          قال زيد بن أسلم، عن أبيه، أنَّ عمر بن الخطَّاب طاف ليلة، فإذا هو بامرأة في جوف(43) دار لها صبيان يبكون، وإذا قِدْرٌ على النَّار، قد ملأتها ماء، فدنا عمر من الباب، فقال: يا أمة الله، ممَّ بكاء هؤلاء الصِّبيان؟ فقالت: من الجوع. قال: فما في هذه / القِدْرِ التي على النَّار؟ قالت: فيها ماء أعلِّلهم بذلك حتَّى يناموا، أوهمهم أنَّ فيها طعاماً. فجلس عمر يبكي، ثمَّ جاء إلى دار الصَّدقة، فأخذ منها غَرارة، وجعل فيها شيئاً من دقيق وسمن وشحم وتمر وثياب ودراهم، حتَّى ملأ الغرارة، ثمَّ قال: يا أسلم، احمل عليَّ. فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا أحمله عنك. فقال: لا أمَّ لك يا أسلم! أنا أحمله؛ لأنِّي المسؤول عنه في الآخرة. قال: فحمله على عنقه(44) حتَّى أتى منزل المرأة، ثمَّ ذرَّ الطَّحين على القدر، ووضع فيها شيئاً من شحم وتمر، وجعل يحركه بيده، وينفخ النَّار تحت القدر، وكانت لحيته عظيمة، قال أسلم: فرأيت الدُّخان يخرج من خلال لحيته؛ حتَّى طبخ لهم، ثمَّ جعل يغرف بيده ويطعمهم حتَّى شبعوا، ثمَّ خرج وجلس بحذائهم، كأنَّه سبع، وخفت منه أن أكلِّمه، فلم يزل جالساً حتَّى لعب الأولاد وضحكوا، ثمَّ قال: يا أسلم، أتدري لم جلست هاهنا؟ قال: رأيتهم يبكون، فكرهت أن أذهب عنهم حتَّى أراهم يضحكون، فلمَّا ضحكوا طابت نفسي. قاله ابن الأثير في أسد الغابة(45) .
          وقال كمال الدِّين الدَّميريُّ: بينا عمر نصف نهار قائل في ظلِّ شجرة إذا أعرابيَّة، فتوسَّمت النَّاس، فجاءته، فقالت: إنِّي امرأة مسكينة، ولي بنون، وإنَّ أمير المؤمنين بعث محمَّد بن مسلمة ساعياً، فلم يعطنا، فلعلَّك يرحمك الله أن تشفع لنا إليه. فصاح عمر: بيَرْفَا _هو اسم حاجب عمر، وهو بفتح التَّحتيَّة، وسكون الرَّاء، بعدها فاء_ وقال: ادع محمَّد بن مسلمة. فقالت: إنَّه(46) أنجح لحاجتي أن تقوم معي إليه. فقال: إنَّه سيفعل إن شاء الله تعالى. وفي رواية أنَّه قال لها: اذهبي، فقولي له: هذا الرَّجل يدعوك. فقالت [له] : ليس هكذا يكون الشَّفيع. فجاء محمَّد بن مسلمة، فقال: السَّلام عليك يا أمير المؤمنين. فاستحيت المرأة؛ لأنَّها لم تعرفه، فقال عمر: والله ما آلو جهداً أن اختار خياركم، كيف أنت قائل إذا سألك الله عن هذه؟ فدمعت عينا محمَّد، ثم قال: أَدِّ إليها صدقة العام وعام أوَّل، وما أدري لعلِّي ما أبعثك؟ ثمَّ دعا بجمل، وأعطاها دقيقاً وزيتاً، وقال: خذي هذا، والحقينا بخيبر، فإنَّا نزيدك. فأتته بخيبر، فدعا لها بجملين آخرين، وقال: خذي هذا حتَّى يأتيكم محمَّد، فقد أمرته أن يعطيك حقَّك العام وعام أوَّل.
          قال تقيُّ الدِّين الحصنيُّ(47) في _قمع النُّفوس_: إنَّ عمر لمَّا قفل من الشَّام جعل يطوف بالبراري، يسأل عن حال النَّاس، وعن سيرة عمر، فبينا هو ذات يوم دخل على خيام، فصادف عجوزاً، فسألها عن سيرة عمر، فقالت: فعل الله بعمر، وفعل، وفعل. فجلس يبكي، ويقول: مهلاً مهلاً، لم هذا كلُّه؟ قالت: منذ تولَّى لم يك أوصلني حقِّي من بيت المال. فقال: ويحك! ومن أين يعرفك عمر؟ قالت: هلَّا(48) قعد في بيته إذ كان عاجزاً عن معرفتي؛ حتَّى يتولَّى قادر على ذلك؟ أما يعلم عمر أنَّه / لو ماتت شاة جرباء بشاطىء الفرات(49) لا بدَّ أن يسأل عمر عنها؟ فقال: هل لك أن تصالحيني ممَّا لك في السِّنين الماضية على خمس وعشرين ديناراً؟ قالت: مه، لا تتَّخذني هزواً. قال: كلا والله. فبينا هو كذلك، وإذا بعليِّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، فقالا: السَّلام عليك يا أمير المؤمنين. فاستحت المرأة، وضاقت(50) ، وقالت: لست أعرفك، فالعفو. فقال: مهلاً، نبَّهتني على ما كنت غافلاً عن ذلك، ونصحتني. فصالحها على ذلك، وطلب كاغداً أو ورقاً، فلم يجد، فكتب على قطعة فرو(51) : هذا ما صالح عمر بن الخطَّاب فلانة الفلانيَّة على ما كانت تستحقُّ في بيت المال وأشهد على ذلك عليًّا وابن مسعود، ثمَّ وصَّاهما أنَّه إذا مات أن يجعلا الفروة في كفنه؛ لتكون حجَّته معه. فرضي الله عنه ما أحرصه على دينه، وأخوفه من ربِّه { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن:46]
          قال حجَّة الإسلام [الغزاليُّ] في نصيحة الملوك: بينا عمر يسوس المدينة ليلاً، وإذا بطفل في السَّرير يبكي، فجلس عنده، وهزَّ للصَّبيِّ حتَّى نام، ولم ينبِّه أمَّه(52) ، وطاف المدينة حتَّى انتهى إليه، وإذا به يبكي، فحرَّك الصَّبيَّ حتَّى نام، ولم ينبِّه(53) الأمَّ، وطاف المدينة حتَّى انتهى إليه، وإذا هو يبكي، فنبَّهها، وقال: قومي أرضعي(54) الطِّفل، فبئس الوالدة أنت. قالت: اذهب عنِّي أيُّها الرَّجل، فعل الله بعمر. قال: وما لعمر؟ قالت: نادى مناديه: إنَّه ليس لأحد في بيت المال حقٌّ إلَّا لمن كان فطيماً، نحن قوم فقراء، وأريد أن أفطم هذا ليكون له نصيب في بيت المال. فبكى عمر، وقال: كم قتلت من الأطفال، وكم عذَّبت من الأمَّهات! وقال لها: أرضعي، وأنا أقول غداً لعمر حتَّى ينادي: ألا من ولد في الإسلام، فله نصيب في بيت المال. فلمَّا أصبح نادى مناديه بذلك(55) ، ☺.
          قال عثمان بن عفَّان: بينا (أنا) ذات يوم بالهاجرة، وإذا برجل متلفِّع(56) بعباءة، يسوق جملين، فقلت للغلام: انظر من هذا؟ فنظر، فإذا عمر بن الخطَّاب، فقلت: يا أمير المؤمنين! ما هذا؟ قال: جملان تأخَّرا عن الرَّعي، فأريد أن ألحقهما بالإبل في النقيع(57) ، وخفت أن يمسيا طاويين جائعين. فقلت: دع الغلام يوصلهما. قال: كلَّا، أنا أحقُّ بذلك.
          قال صلعم: «بينا أنا في المنام رأيت أنِّي أنزع بدلو بكرة على قليب، فجاء أبو بكر، فنزع نزعاً ضعيفاً، ذنوباً أو ذنوبين، والله يغفر له، ثمَّ جاء عمر، فاستحالت غرباً، فلم أر عبقريًّا يفري فريه، حتَّى روي النَّاس، وضربوا بعطن». اعلم أنَّ معنى العبقريِّ: القويُّ من كلِّ شيء، يعني لم أجد قويًّا يأتي بعجائب مثل عمر، والضَّرب بالعطن كناية عن الشِّبع والرِّيِّ، وذلك أنَّ الإبل إذا شبعت وارتوت من الماء نامت على أعطانها، أي مباركها، واعلم أنَّه ليس في هذا مزيَّة لعمر على أبي بكر ☻، كما قال ابن قدامة؛ لأنَّ قوَّة الإسلام ابتداء إنَّما حصلت على يد / أبي بكر ورأيه وعلوِّ همَّته، فإنَّه في أوَّل الإسلام أبدى القوَّة والغلظة في المرتدِّين ومانعي الزَّكاة، وعمر يأمر بالرِّفق، حتَّى أظهر الله الحقَّ، وكذلك في جيش أسامة، وقد ذكرنا في ترجمة أسامة، فأبو بكر هو الذي جنَّد الجنود، وفتح المدن أوَّلا من الشَّام والفرات والعراق، وكسر جنود الرُّوم وفارس، وتولَّى عمر، وبنى على هذه القواعد التي أسَّسها، والأمور التي مهَّدها أبو بكر، فهو الأوَّل في ذلك، فصار كمال قيل _من البحر الطَّويل(58)_:
فلو قَبْلَ مبكاها بَكَيْتُ صَبَابةً                     إذاً لشفيتُ النَّفسَ قبلَ التَّندُّمِ
ولكنْ بكَتْ قبلي فهيَّجَ لي البُكا                     بُكاها فقلتُ الفضلُ للمتقدِّمِ
          ولأنَّ عمر غَرْسُ أبي بكر، لأنَّه استخلفه على كره من بعض الصَّحابة، فأبى إلَّا ذلك لعلمه بقوَّته، وسداد رأيه، وشجاعته، فكان السَّبب في الخير الذي أجرى الله على يد عمر، فكان لأبي بكر ثوابه؛ مضموماً إلى ثوابه؛ لأنَّه كما قال صلعم: «من سنَّ سنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة». ولهذا قال جبريل للنَّبيِّ صلعم: إنَّ عمر حسنة من حسنات أبي بكر. وقال صلعم: «يا عمَّار، قلت لجبريل: حدِّثني بفضائل عمر في السَّماء، فقال: يا محمَّد(59) لو حدَّثتك بفضائله(60) في السَّماء في مدَّة لبث نوح، ألف سنة إلَّا خمسين عاماً ما نفدت، وإنَّ عمر حسنة من حسنات أبي بكر».(61)
          وقال سعد بن أبي وقَّاص: دخل عمر على رسول الله صلعم وعنده نسوة من قريش، يكلِّمنه، رافعات أصواتهنَّ، فلمَّا استأذن عمر بادرن الحجاب(62) ، فأذن له رسول الله صلعم، فدخل عمر، وهو يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنَّك يا رسول الله. فقال: «عجبت من هؤلاء اللاتي كنَّ عندي، فلمَّا سمعن بصوتك بادرن الحجاب». فقال (عمر): يا عدوَّات أنفسهنَّ! تهبنني ولا تهبن رسول الله صلعم. فقلن: نعم، أنت أفظُّ وأغلظ. فقال صلعم: «إيهاً ابن الخطَّاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشَّيطان سالكاً فجًّا قطُّ إلَّا سلك فجًّا غير فجِّك».
          قالت عائشة: كان صلعم جالساً، فسمع صوتاً ولغطاً، فقام، فإذا حبشيَّة(63) تلعب، والصِّبيان حولها، فقال: «أي عائشة، تعالي وانظري». فجئت، فوضعت لحيي على منكب رسول الله صلعم، فجعلت أنظر إليها ممَّا بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: «أما شبعت، أما شبعت»؟ فأقول: لا [لا] ؛ لأنظر منزلتي عنده؛ إذ طلع عمر، قالت: فارفضَّ النَّاس عنها، فقال صلعم: «إنِّي لأنظر إلى شياطين الجنِّ والإنس قد فرُّوا من عمر». قالت: فرجعت. قال في المصابيح(64) : حديث غريب صحيح.
          قال ابن عمر: ما رأيت أحداً قطُّ بعد رسول الله صلعم من حين قبض كان أجدَّ وأجود حتَّى انتهى من عمر بن الخطَّاب.
          قال عمر: لمَّا توفِّي عبد الله بن أُبيِّ بن سلول دعا ابنه عبدُ الله رسولَ الله صلعم ليصلِّي عليه، وطلب منه قميصه ليكفِّنه فيه، فأعطاه، فلمَّا وقف للصَّلاة عليه قمت في صدره، فقلت: يا رسول الله، أتصلِّي على عدوِّ الله ابن / أُبيٍّ، القائل يوم كذا: كذا وكذا. أُعدِّد أياَّمه؟ قال: وهو يبتسم؛ حتَّى إذا أكثرت عليه، قال: «أخِّر عنِّي يا عمر، إنِّي خيِّرت بين خِيرتين، فاخترت، قد قيل: { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ } [التوبة:80] لو أعلم أنِّي إن زدت على السَّبعين غفر لهم(65) لزدت عليه». ثمَّ صلَّى عليه(66) ومشى، فقام على قبره حتَّى فرغ(67) ، فعجباً لي وجرأتي على رسول الله صلعم، والله ورسوله أعلم. قال: فوالله ما كان [إلَّا] يسيراً حتَّى نزلت هاتان الآيتان { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ } إلى قوله: { فَاسِقُونَ } [التوبة:84] فما صلَّى صلعم بعده على منافق، ولا قام على قبره حتَّى قبضه الله تعالى.
          قال عمر: بلغني شيء كان بين أمَّهات المؤمنين، وبين النَّبيِّ صلعم، فاستقريتهنَّ أقول لهنَّ: لتكفنَّ عن رسول الله صلعم، أو ليبدلنَّه الله أزواجاً خيراً منكنَّ(68) . حتَّى أتيت على آخر أمَّهات المؤمنين، فقالت لي أمُّ سلمة: أما في رسول الله أن يعظ نساءه حتى تعظهنَّ(69) ؟ فأنزل الله تعالى: { عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ } [التحريم:5] الآية.
          قال ابن مسعود: لمَّا كان يوم بدر، وجيء بالأسرى، قال صلعم: «ما تقولون في هؤلاء»؟ فقال أبو بكر: قومك وأهلك، استبقِهِمْ واستأن بهم(70) ، لعلَّ الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تكون لنا قوَّة على الكفَّار. وقال عمر: يا رسول الله! قومك كذَّبوك، وأخرجوك، قدِّمْهم فاضرب أعناقهم، ومكِّنْ عليًّا من عَقيل، فيضرب عنقه، ومكِّنْ حمزة من عبَّاس، ومكِّني من فلان _نسيب لعمر_ فأضرب عنقه، فإنَّ هؤلاء أئمَّة الكفر. وقال عبد الله بن رواحة: انظر وادياً كثير الحطب، فأدخلهم فيه، ثمَّ أضرمه عليهم ناراً. فقال له العباس: قطعت _والله_ رحمك. فسكت عنهم رسول الله صلعم، فلم يجبهم، ثمَّ دخل، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر. وقال ناس: يأخذ بقول عمر. وقال ناس: يأخذ بقول ابن رواحة. فخرج، فقال: «إنَّ الله ليليِّن قلوب رجال حتَّى تكون ألين من اللَّبن، وإنَّ الله ليشدُّ قلوب رجال حتَّى تكون أشدَّ من الحجارة، وإنَّ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [إبراهيم:36] وإنَّ مثلك [يا أبا بكر] مثل عيسى قال: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة:118] ، ومثلك يا عمر مثل نوح قال: { رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } [نوح:26] ومثلك يا عمر مثل موسى، قال: { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ }» [يونس:88] ثمَّ قال صلعم: «أنتم اليوم عالة، فلا يفلتنَّ أحد إلَّا بفداء، أو ضرب عنق». قال ابن مسعود: فقلت: إلَّا سهيل بن بيضاء؛ فإنِّي سمعته يذكر الإسلام. فسكت رسول الله صلعم، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليَّ الحجارة من السَّماء منِّي في ذلك اليوم؛ حتَّى قال صلعم / «إلَّا سهيل بن بيضاء». فلمَّا كان من الغد جئت رسول الله صلعم، فإذا هو يبكي، وأبو بكر كذلك، فقلت: يا رسول الله، أخبرني عن أيِّ شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت وإلَّا تباكيت؟ فقال: أبكي للذي عرض على أصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشَّجرة _شجرة قريبة منه صلعم_ وأنزل الله { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } [الأنفال:67] أي يبالغ في قتل الأعداء، قال: فإذا هم أربعة آلاف، وقيل: فدى كلَّ أسير عشرين أوقية، وفدى العبَّاس أربعين؛ للكفر وقطع الرَّحم. وقد مرَّ في ترجمته أنَّه أكره، إلى غير ذلك، فراجعها.
          قال ابن عبَّاس: هذا يوم بدر، والمسلمون يومئذ قليل، فلمَّا كثروا واشتدَّ سلطانهم؛ أنزل الله تعالى: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } [محمد:4] قال عَبيدة السَّلْماني: قال رسول الله في أسارى بدر: «إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم، ويُسْتَشْهد(71) منكم بعدَّتهم». وكانت الأسرى سبعين، فقالوا: بل نأخذ الفداء، ونستمتع به على عدوِّنا، ويُسْتَشْهَدُ منَّا بعدَّتهم. قال عَبيدة: طلبوا الخِيرتين كلتيهما، فقتل من المسلمين يوم أحد سبعون.
          قال ابن إسحاق، وابن زيد: لم يكن أحد ممَّن حضر إلَّا أحبَّ الغنائم إلَّا عمر، جعل لا يلقى أسيراً إلَّا ضرب عنقه، وقال: يا رسول الله، ما لنا وللغنائم؟ نحن قوم نجاهد في دين الله حتَّى يعبد الله وحده. وقال سعد بن معاذ أيضاً: الإثخان في القتل يا رسول الله أحبُّ إلي من استبقائك الرِّجال. فقال صلعم: «لو نزل عذاب من السَّماء ما نجا منه غير عمر بن الخطَّاب، وسعد بن معاذ».
          قال قتادة، وعكرمة، والسُّدِّيُّ: كان لعمر بأعلى المدينة أرض، وممرُّها على مدراس اليهود، وكان عمر إذا أتى أرضه يأتيهم، ويسمع كلامهم، فقالوا [له] : يا(72) عمر، ما في أصحاب محمَّد أحبُّ إلينا منك، إنَّهم يمرُّون بنا فيؤذوننا، وأنت لا تؤذينا، وإنَّا لنطمع فيك. فقال عمر: والله ما جئتكم(73) لحبِّكم، ولا لأسألكم؛ لأنِّي غير شاكٌّ في ديني، وإنَّما أدخل إليكم لأزداد بصيرة في أمر محمَّد صلعم، فأرى آثاره في كتابكم. قالوا: من صاحب محمَّد الذي يأتيه من الملائكة؟ قال: جبريل. قالوا: ذاك عدوُّنا، يطلع محمَّداً على سرِّنا، وهو صاحب كلِّ عذاب وخَسْفٍ وسَنَةٍ وشدَّة، وميكائيل صاحب الخصب والسِّلم. فقال عمر: أتعرفون جبريل، وتنكرون محمَّداً؟ قالوا: نعم. قال: فأخبروني عن منزلة جبريل وميكائيل من الله. قالوا: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، وميكائيل عدوٌّ لجبريل. فقال عمر: إنِّي أشهد أنَّ من كان عدوًّا لجبريل فهو عدوٌّ لميكائيل، ومن كان عدوًّا لميكائيل فهو عدوٌّ لجبريل، ومن كان عدوًّا لهما فإنَّ الله عدوٌّ له(74) . ثمَّ رجع إلى رسول الله صلعم، فوجد جبريل قد سبقه بالوحي، فقرأ صلعم الآيات، وقال: «لقد وافقك ربُّك يا عمر». /
          فقال [عمر] : لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر.
          قال ابن عبَّاس: قال النَّبيُّ صلعم لأبي بكر وعمر: «ألا أخبركما بمثلكما في الملائكة، ومثلكما في الأنبياء؟ أمَّا مثلك أنت يا أبا بكر، فكمثل ميكائيل، ينزل بالرَّحمة، وكمثل إبراهيم إذ كذَّبه قومه، وصنعوا به ما صنعوا، قال: { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [إبراهيم:36] ومثلك في الملائكة يا عمر، كمثل جبريل، ينزل بالبأس والشِّدَّة على أعداء الله، وفي الأنبياء مثل نوح؛ إذ قال: { رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا }». [نوح:26] .
          قال الشَّعبيُّ: قال عمر: والله لقد لان قلبي في الله، حتَّى لهو ألين(75) من الزُّبد، واشتدَّ في الله، حتَّى لهو أشدُّ من الحجر.
          قال سعيد بن المسيَّب: لمَّا وُلِّي عمر خطب النَّاس، ثمَّ قال: أيُّها النَّاس، إنِّي والله لقد علمت أنَّكم كنتم تؤنسون منِّي شدَّة وغلظاً، وذلك أنِّي كنت عبد رسول الله وخادمه، وكان كما قال الله: { بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }(76) [التوبة:128] ، وكنت كالسَّيف(77) المسلول [إلَّا أن يغمد، أو ينهاني عن أمر أكفُّ عنه، فلم أزل معه على ذلك حتَّى توفَّاه الله، وهو عنِّي راض، والحمد لله على ذلك كثيراً، وأنا به أسعد، ثمَّ قمت ذلك المقام مع أبي بكر بعد رسول الله صلعم، وكان من علمتم في كرمه ولينه، فكنت خادمه، وكنت كالسيف المسلول] بين يديه على النَّاس، أخلط شدَّتي بلينه؛ إلَّا أن يتقدَّم إليَّ فأكفُّ، فلم أزل على ذلك حتَّى توفَّاه الله، وهو عنِّي راض، والحمد لله على ذلك كثيراً، وأنا أسعد به، ثمَّ جاء أمركم إليَّ اليوم، وأنا أعلم أن سيقول قائل: كان متشدِّداً علينا، والأمر إلى غيره، فكيف به إذا صار الأمر إليه؟ اعلموا أنَّكم لا تسألون عنِّي أحداً، قد عرفتموني وجرَّبتموني، وقد عرفت بحمد الله، وما أصبحت نادماً على شيء أحبُّ أن أسأل عنه رسول الله صلعم إلَّا وقد سألته، واعلموا أنَّ شدَّتي التي كنتم ترون ازدادت أضعافاً؛ إذ كان الأمر إليَّ على الظَّالم والمعتدي، والأخذ للمسلمين لضعيفهم من قويِّهم، وإنِّي بعد شدَّتي تلك واضع خدِّي بالأرض لأهل العفاف، وأهل الكفِّ فيكم (والتَّسليم)، وإنِّي لست آبى إن كان بيني وبين أحد منكم شيء في أحكامكم أن أمشي معه إلى من أحبَّ منكم، فينظر ما بيني وبينه، فاتَّقوا الله عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفِّها، وأعينوني على نفسي، بالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وإحضاري النَّصيحة فيما ولَّاني الله تعالى من أمركم.
          قال سعيد: فوالله لقد وفَّى لله بما قال، وزاد في موضع الشِّدَّة على أهل الرَّيب والظُّلم، والرِّفق بأهل الحقِّ.
          قال عبد الله: أَفْرَسُ النَّاس ثلاثة: العزيز حين تفرَّس في يوسف، (حين) قال لامرأته: { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } [يوسف:21] والمرأة التي أتت موسى، فقالت لأبيها: { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ } [القصص:26] وهي بنت شعيب، وأبو بكر حين استخلف عمر. قال عبد الله: لو أنَّ علم عمر في كفَّة، وعلم أهل الأرض في كفَّة أخرى، رجح علم عمر.
          قال أنس: أتى جبريل النَّبيَّ صلعم، فقال: أقرىء عمر بن الخطَّاب السَّلام، وأعلمه أنَّ غضبه عزٌّ، و [إنَّ] رضاه عدل. وقال: إن أردت أن تنظر من أهل السَّماء إلى عزرائيل _بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، وبالكافرين فظًّا غليظًّا_ فانظر إلى عمر بن الخطَّاب.
          قال وهب بن منبِّه: في التَّوراة عمر بن الخطَّاب قَرْنٌ من حديد، أمين سديد(78) .
          قال / ابن مسعود: ما رأيت عمر إلَّا وكأنَّ بين عينيه(79) ملكاً يسدِّده. وقال صلعم: «إنَّ الله جعل الحقَّ على لسان عمر وقلبه».
          قال أنس: سأل رجل النَّبيَّ صلعم، فقال: متى السَّاعة؟ فقال: «وما أعددت لها»؟ قال: لا شيء؛ إلَّا أنِّي أحبُّ الله ورسوله. فقال: «أنت مع من أحببت». قال أنس: فأنا أحبُّ النَّبيَّ صلعم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم؛ بحبِّي إيَّاهم، وإن لم أعمل مثل عملهم، وقال صلعم: «من أحبَّ عمر فقد أحبَّني، ومن أبغض عمر فقد أبغضني». وما رأيت عمر في نوم ولا يقظة إلَّا رأيت ذلك اليوم خيراً.
          قال ابن عبَّاس: بينا رسول الله صلعم جالس في المسجد مع جبريل وهو يحدِّثه إذ دخل عمر، فقال جبريل: أليس هذا بصاحبك عمر؟ فقلت (له): «بلى يا جبريل، أله في السَّماء اسم، كماله في الأرض اسم»؟ قال: إي والذي بعثك بالحقِّ نبيًّا، إنَّ اسمه في السَّماء لأشهر منه في الأرض، اسمه في السَّماء فاروق. وقال صلعم: «إنَّ الشَّيطان ليفرُّ من ظلِّ عمر». ولمَّا استأذن عمر رسول الله صلعم في العمرة، فأذن له، ثمَّ قال: «لا تنسنا يا أخي من دعائك». وقال: «أشدُّ أمَّتي في أمر الله عمر، وعمر معي حيث حللت، وأنا مع عمر حيث حلَّ، وعمر معي حيث أُحبُّ، وأنا مع عمر حيث أَحَبَّ».
          قال الفضل بن عبَّاس: جاءني رسول الله صلعم وهو موعوك، فقال: «خذ بيدي» فأقبل إلينا عمر، فقال: «اللهم ارزقه صدقاً وإيماناً، وصيِّر أمره إلى خير». وضحك صلعم ثمَّ قال: «عمر معي، وأنا مع عمر، والحقُّ بعدي مع عمر».
          قال عليٌّ: سمعت النَّبيَّ(80) صلعم يقول: «اتَّقوا غضب عمر، فإنَّ الله يغضب إذا غضب عمر، ولو لم أبعث فيكم لبعث عمر».
          قال المفسِّرون: إن بِشْراً المنافق خاصم يهوديًّا، فدعاه إلى النَّبيِّ صلعم، ودعا بشر إلى كعب بن الأشرف، ثمَّ إنَّهما اختصما إلى النَّبيِّ صلعم، فقضى لليهوديِّ على المنافق، فقال المنافق لليهوديِّ: انطلق أخاصمك إلى عمر. فانطلقا إلى عمر، فقال اليهوديُّ لعمر: إنِّي خاصمته إلى محمَّد، فلم يرض بقضائه، وزعم أنَّه يخاصمني (إليك). فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، أحببت أن نفترق عن حكمك. فقال عمر: مكانَك حتَّى أخرج إليكما. فدخل وأخذ السَّيف، فاشتمل عليه، ثمَّ خرج إلى المنافق، فضربه حتَّى برد، فقال عمر: هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله. فأنزل الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ } [النساء:60] يعني كعب بن الأشرف.
          قال عليٌّ: ما كنا نبعد أنَّ السَّكينة تنطق على لسان عمر، ولقد كنَّا نرى أنَّ شيطان عمر يهاب عمر أن يأمره بمعصية. وقال: إذا ذكر الصَّالحون، فحيَّهلا بعمر.


[1] في الاستيعاب:3/1145، وقول ابن الأثير في أسد الغابة:4/137.
[2] في (ن) تصحيفاً: (تعين).
[3] في غير (ن): (سمناً ولا لبناً).
[4] في الاستيعاب:3/1145.
[5] في (ن): (استقل).
[6] في غير (ن): (يحكم).
[7] في (ن) تصحيفاً: (الديون).
[8] في غير (ن): (رسول الله).
[9] أسد الغابة:4/138.
[10] في (ن): (قال).
[11] جاء في الحاشية عند هذه العبارة في نسخة (ف) بإشارة لحق ما نصه: فكان كذلك، فإنه قتله حمزة بن عبد المطلب في وقعة بدر، فتأمل.
[12] في غير (ن): (إليه) بدل (نذراً).
[13] في (ن) تصحيفاً: (ملا).
[14] في (ن): وهذه أمه برة بوالديها) وفي (ف): (برة بوالدتها).
[15] في (ن) تصحيفاً: (العرض).
[16] سقطت (هو) من الآية في (ن).
[17] في (ن): (في).
[18] في (ن) تصحيفاً: (لا يسمه).
[19] في غير (ن): (فإذا).
[20] في غير (ن): (النبي).
[21] في (ن): (فجلس).
[22] في (ن): (وجبذني).
[23] في (ن): (وأغلق).
[24] في غير (ن): (عبيد الله).
[25] في غير (ن): (رآه).
[26] في (ن) تصحيفاً: (سنته).
[27] في غير (ن): (الصحابة).
[28] في غير (ن): (فتظهرون).
[29] في غير (ن): (ولكن).
[30] بلح: أعيا وتعب، وفي رواية (طلح) ومعناهما واحد، والخبر في أسد الغابة:4/142.
[31] في (ن) تصحيفاً: (الذي).
[32] في (ن): (انقض).
[33] في غير (ن): (لا).
[34] في (ن) تصحيفاً: (غيرهم).
[35] سقطت كلمة (رجلا) من الأصول كلها واستدركت من أسد الغابة.
[36] 2/324.
[37] في (ن): (ما لهذا لخلقت، وأما خلقنا).
[38] في (ن) تصحيفاً: (وليأتم).
[39] في (ن) تصحيفاً: (قال وبرأيه في ابكر).
[40] في (ن): (لهم).
[41] سقطت صاحباه من غير (ن) و(ف)، والأبيات في تاريخ دمشق لابن عساكر:44/350، وفي أسد الغابة:4/155، مع بقية أخباره.
[42] في (ن) تصحيفاً: (المسألة).
[43] ، وفي غير (ن) و(ف): (في حواف دار لها).
[44] في حاشية (ف) ما نصه: (خ عاتقه).
[45] 4/155.
[46] في (ن): (الله) بدل (إنه) ولعلها تصحيف.
[47] أبو بكر بن محمد الحسيني الحصني، فقيه، ورع، من أهل دمشق. ولد ومات بها سنة 829هـ، نسبته إلى الحصن من قرى حوران، وإليه تنسب زاوية الحصني في محلة الشاغور بدمشق، من تصانيفه: كفاية الأخيار في الفقه الشافعي، وقمع النفوس ورقية المأيوس، في الوعظ والإرشاد وهو مخطوط لم يطبع، وتوجد نسخة منه في جامعة الملك سعود تحت عنوان: مواعظ 213، والنص أعلاه موجود في الورقة 59، والمصنف ينقل عنه بتصرف.
[48] في (ن) تصحيفاً: (كلا) وجاء فيها (أو كان) بدل (إذ).
[49] في (ن): (بشاطئ فراة).
[50] في غير (ن): (وخافت).
[51] في غير (ن): (فروة).
[52] في غير (ن): (الأم).
[53] في غير (ن): (تنتبه).
[54] في (ن) تصحيفاً: (ارضع).
[55] في (ن): (كذلك).
[56] في (ن): (ملفع).
[57] في (ن): (البقيع) والمثبت من غيرها، وفي سائر المصادر (الحمى).
[58] الشعر في الكامل للمبرد، ونسبه لابن الرقاع:2/99، وقال: قال أبو الحسن الأخفش: الصحيح أنه لنصيب، وهما في ديوان الحماسة وشرحها للمرزوقي:3/1290، وجعلهما لعدي بن الرقاع، والرواية عنده: (بلبنى شفيت)، وعند المبرد: (بسعدى) و(فهاج).
[59] في (ن) تصحيفاً: (يا عمر).
[60] في غير (ن): (بفضائل عمر).
[61] أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (14432) وقال: رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط، وفيه الوليد بن الفضل العنزي، وهو ضعيف جداً.
[62] في غير (ن): (للحجاب).
[63] في غير (ن): (حبشة).
[64] مشكاة المصابيح:2/1705 برقم 6049.
[65] في غير (ن): (له).
[66] في (ن) تصحيفاً: (قال صلعم ).
[67] في غير (ن): (فرغا).
[68] في غير (ن): (منكم).
[69] في غير (ن): (حتى يعظهن الله).
[70] في غير (ن): (واستأذن لهم).
[71] في غير (ن): (واستشهد).
[72] في غير (ن): (أي).
[73] في (ن) تصحيفاً: (أحبكم). وفيها أيضاً (وإلا لأسمع منكم) بدل (ولا).
[74] في (ن) تصحيفاً: (لهما).
[75] في غير (ن): (أهين).
[76] في الأصول {بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً} هكذا بالنصب، ولا يصح ذلك، لا في قراءة معتمدة ولا شاذة.
[77] في (ن): (بالسيف).
[78] في هامش (ف): في نسخة: (شديد).
[79] في غير (ن): (يديه).
[80] في غير (ن): (سمعت رسول الله).