غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق

          777 # عبد الرَّحمن بن أبي بكر الصِّدِّيق، أبو عبد الله القرشيُّ، التَّيميُّ، المدنيُّ، الصَّحابيُّ.
          روى عن رسول الله صلعم ثمانية أحاديث، قال ابن حجر(1) : للبخاريِّ منها ثلاثة أحاديث. قال ابن الأثير(2) : ويكنَّى أبا محمَّد أيضاً، بابنه محمَّد الذي يقال له: أبو عتيق. وقيل: أبو عثمان. وأمُّه أمُّ رُومان.
          سكن المدينة(3) ، وتوفِّي بمكَّة، ولا يعرف في الصَّحابة أربعة [وِلاء] صحبوا النَّبيَّ صلعم وبعضهم من بعض إلَّا أبو قحافة، وابنه [أبو بكر، وابنه] عبد الرَّحمن، وابنه محمَّد أبو عتيق، قلت: فرضي الله عنهم ذرِّيَّة طيَّبة بعضها من بعض، ولذلك مثلهم في التَّوراة، وجمعهم حيث قال الله تعالى: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ } يعني أبا بكر وذرِّيَّته { وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ } يعني أبا بكر { أَخْرَجَ شَطْأَهُ } [الفتح:29] يعني ذرِّيَّته، وكان عبد الرَّحمن شقيق عائشة، وشهد بدراً وأحداً مع الكفَّار، ودعا إلى البراز، فقام إليه أبو بكر ليبارزه، فقال له صلعم: «متِّعني بنفسك». فإنَّه كان شجاعاً، مقداماً، رامياً، حسن الرَّمي، وأسلم في هدنة الحديبية، وحسن إسلامه، وكان اسمه عبد الكعبة، فسمَّاه رسول الله صلعم عبد الرَّحمن، وقيل: كان اسمه عبد العزَّى. وشهد اليمامة مع خالد بن الوليد، قتل سبعة من أكابرهم _☺ وعن أبيه وجدِّه وابنه وأخته وأهل بيته_ وهو الذي قتل عدوَّ الله محكم اليمامة في ثلمة(4) من الحصن، فلمَّا قتل دخل المسلمون منها، وكان أسنَّ ولد أبي بكر، وكان فيه دعابة، قال عبد الرَّحمن: قال رسول الله صلعم: «ايتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعده». ثمَّ ولَّى قفاه، ثمَّ أقبل علينا، فقال: «يأبى الله والمؤمنون إلَّا أبا بكر».
          ومن الغرائب ما حكى الزُّبير بن بكَّار(5) أنَّ عبد الرَّحمن بن أبي بكر قدم الشَّام في تجارة، فرأى ببُصْرَى امرأة يقال لها: ليلى ابنة الجوديِّ، فأعجبته، فقال فيها _من البحر الطَّويل(6)_:
تذكَّرتُ ليلى والسَّمَاوةُ دونَها                     فما لابنةِ الجُوْدِيِّ ليلَى ومالِيَا
وأنَّى تُعَاطِى قلبَه حارثيةٌ                     تدنُ من(7) بُصْرَى أو تَحلُّ الجَوَابِيَا
          قال: فلمَّا بعث عمر جيشه إلى الشَّام، قال لأمير الجيش: إن ظفرت بليلى ابنة الجوديِّ عنوة فادفعها إلى عبد الرَّحمن بن أبي بكر. فظفر بها، فنفَّله إيَّاها، (فآثرها) عبد(8) الرَّحمن لنفسه، واختارها على نسائه، حتَّى شكينه إلى عائشة، فعاتبته على ذلك، فقال: والله لكأنِّي أَرْشُف من ثناياها حَبَّ الرُّمَّان. ثمَّ إنَّه جفاها(9) ، (وهجرها؛) حتَّى شكته إلى عائشة، فقالت [عائشة] : يا عبد الرَّحمن، أحببت ليلى فأفرطت، وأبغضتها فأفرطت؛ فإمَّا أن تنصفها، وإمَّا أن تجهِّزها إلى أهلها. وكانت غسَّانيَّة، فجهَّزها إلى أهلها، وشهد وقعة الجمل مع أخته عائشة.
          قال محمَّد بن زياد: إنَّ معاوية كتب إلى مروان أن يبايع ليزيد بن معاوية، فقال عبد الرَّحمن: جئتم بها هِرَقْلِيَّة(10) ! تبايعون لأبنائكم؟! فقال [مروان:] يا أيُّها النَّاس، هذا الذي يقول الله تعالى في حقِّه: (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني / أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق) الآية [الأحقاف:17] فسمعت عائشة، فغضبت، وقالت: (والله) ما هو به، ولو شئت أن أسمِّيه لسمَّيته، ولكنَّ الله لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت قطعة من لعنة الله.
          قال الزَّمخشريُّ في كشَّافه، ومحيي السُّنَّة في معالمه(11) إنَّ بعضهم قال: نزلت الآية في عبد الرَّحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، وقد دعاه أبواه إلى الإسلام، فأَفَّف بهما، وقال: ابعثوا لي جُدْعان بن عَمرو، وعثمان بن عَمرو، وهما من أجداده، زاد البغويُّ: وعامر بن كعب، ومشايخ قريش حتَّى أسألهما عمَّا يقول محمَّد. ويشهد لبطلان هذا القول أنَّ المراد بالذي قال جنس القائلين، ولذلك جمع الخبر حيث قال { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ } الآية وإنَّ الذين(12) { حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ }[الأحقاف:18] هم أصحاب النَّار، وعبد الرَّحمن من أفاضل المسلمين، وسراة(13) الصَّحابة، فلا يكون عبد الرَّحمن منهم.
          قال ابن الأثير: بعث معاوية إلى عبد الرَّحمن بن أبي بكر بمئة ألف درهم بعد أن أبى البيعة ليزيد بن معاوية، فردَّها عبد الرَّحمن، وأبى أن يأخذها، وقال: لا أبيع ديني بدنياي. وخرج إلى مكَّة، فمات بها قبل أن يتمِّم(14) البيعة ليزيد، وكان موته فجأة، من نومةٍ نامها بمكان اسمه حُبْشِيٌّ، على نحو عشرة أميال من مكَّة، وحمل إليها، ودفن بها، ولمَّا وصل نعيه عائشة أتت مكَّة حاجَّة، ووقفت على قبره، وبكت عليه، وتمثَّلت بأبيات (متمِّم بن نويرة التي ذكر فيها) جذيمة الأبرش، أمير العرب، من البحر الطَّويل(15) :
وكنَّا كَنَدْماني جَذِيْمَةَ حقبةً                     من الدَّهر حتَّى قيل لن يتصدَّعا
فلمَّا تفرَّقنا كأنِّي ومالِكَاً                     لطُولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معا
          أما والله لو حضرتك لدفنتك حيث متَّ، ولو حضرتك ما بكيتك.
          وشهد عبد الرَّحمن اليمامة.
          قال الكلاباذيُّ(16) : روى عن عبد الرَّحمن(17) : أبو عثمان النهديُّ، وعمرو بن أوس.
          نقل عنه البخاريُّ بالواسطة، في الصَّلاة [خ¦602] ، والعمرة [خ¦1784] ، وصفة النَّبيُّ صلعم [خ¦3581] .
          مات سنة ثلاث، أو خمس، أو ستٍّ وخمسين.


[1] مقدمة الفتح: ص475.
[2] ترجمته في أسد الغابة:3/462.
[3] في غير (ن): (بالمدينة).
[4] في (ن) تصحيفاً: (ثلاثة).
[5] ترجمته في أسد الغابة:3/466، وما بين حاصرتين مستدرك منه، وجاء في الأصول (الزبير بن العوام) وهو سبق قلم، والمثبت من مصادر الترجمة وكذا ما بين حاصرتين.
[6] الأبيات مع الخبر في أسد الغابة:3/463، وتهذيب الكمال:11/123، ونسب قريش لمصعب الزبيري: ص276، مشفوعة ببيت ثالث.
[7] في غير (ن): (تدمِّن) ودمَّن المكان تدمينا إذا غشيه ولزمه (اللسان: دمن).
[8] في (ن): (لعبد).
[9] في (ن) تصحيفاً: (جناها).
[10] في (ن) تصحيفاً: (يا بني قيلة).
[11] 4/303، سورة الأحقاف، الآية 17- 18، ومعالم التنزيل للبغوي:7/259.
[12] في (ن): (الذي).
[13] في (ن): (وسروات).
[14] في غير (ن): (تتم).
[15] الخبر مع الأبيات في تاريخ دمشق لابن عساكر:35/41، وتهذيب الكمال:16/559.
[16] الهداية والإرشاد:1/438.
[17] في (ن): (روى عنه) و(عمرو بن أويس) والثاني تصحيف.