غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

عبد الله بن الزبير بن العوام

          664 # عبدُ الله بنُ الزّبيرِ بنِ العَوَّامِ، الصَّحابيُّ ابن الصَّحابيَّين، القرشيُّ، الأَسَدِيُّ، أبو بكر، وأبو خُبيب، بضمِّ المعجمة، وفتح الموحَّدة الأولى، بعدها تحتيَّة مثنَّاة، وهو اسم أكبر أولاده، وقيل: كان يكنِّيه بذلك من يعيبه، مثل قول:
أرى الحاجات عند أبي خُبيبٍ                     نَكِدْنَ ولا أُمَيَّةَ في البلاد(1)
          أراد أنَّه قليل العطايا، وبنو أميَّة كرماء، وأمُّه أسماء بنت أبي بكر الصِّدِّيق، (وأمَّا أمُّه) ذات النِّطَاقَين، أمَّا أبوه فَحَوارِيُّ رسول الله صلعم، أعني الزُّبير، وأمَّا جدُّه، فصاحب الغار، أعني أبا بكر الصِّدِّيق، وأمَّا أمُّه فذات النِّطاقين(2) ، أعني أسماء، وأمَّا خالته فأمُّ المؤمنين، أعني عائشة، وأمَّا عمَّته فزوج رسول الله صلعم، أعني خديجة، وأمَّا جدَّته فعمَّة رسول الله صلعم، أعني صفيَّة.
          [ثمَّ] (هو) عفيف في الإسلام، قارىء للقرآن، وهو أوَّل مولود في الإسلام بعد الهجرة للمهاجرين بقُباء، فحنَّكه رسول الله صلعم بتمرة لاكها في فيه، ثمَّ حنَّكه بها، فكان ريق رسول الله صلعم أوَّل شيء دخل جوفه، وسمَّاه عبد الله، وكنَّاه أبا بكر بجدِّه (أبي بكر) الصِّدِّيق واسمه، وهاجرت أسماء أمُّه إلى المدينة وهي حامل به، وفي صحيح البخاريِّ(3) عن أسماء قالت: خرجت وأنا مُتِمٌ، فأتيت المدينة. قال الكرمانيُّ(4) : أي مُتِمٌ عدَّة(5) الحمل بإتمام الشَّهر التَّاسع. وقيل: حملت به بعد ذلك، وولدته على رأس عشرين شهراً من الهجرة، ولمَّا ولد كبَّر المسلمون، وفرحوا به كثيراً؛ لأنَّ اليهود كانوا يقولون: قد سحرناهم، فلا يولد لهم ولد.
          [في حياة الحيوان(6) ، نقلاً عن السُّهيليِّ: أنَّه لمَّا ولد عبد الله بن الزُّبير نظر إليه رسول الله صلعم، فقال: «هو هو». فلمَّا سمعت بذلك أسماء أمسكت عن رضاعه، فقال: «أرضعيه ولو بماء عينيك، كبش بين ذئاب، وذئاب عليها ثياب، ليمنعنَّ البيت، أو ليُقتلنَّ دونه»] .
          وكان صوَّاماً قوَّاماً، طويل الصَّلاة، عظيم الشَّجاعة، لم يكن على خدِّه شعرة واحدة، وهو أحد الطُّلْسِ الذين لا شعر على لحيتهم، كقيس بن سعد بن عبادة، والأحنف بن قيس، وشريح القاضي، وأحضره أبوه الزُّبير لرسول الله صلعم ليبايعه، وعمره سبع سنين أو ثمان، فلمَّا رآه صلعم مقبلاً تبسَّم، ثمَّ بايعه.
          روى عن رسول الله صلعم ثلاثة وثلاثين حديثاً، قال ابن حجر(7) : /
           للبخاريِّ منها عشرة أحاديث. وقال الكرمانيُّ(8) : ستَّة أحاديث، وهو أحد العبادلة الأربعة: ابن عمرو، وابن عبَّاس، وابن الزُّبير، وابن عمر(9) _لا ابن مسعود كما وقع في بعض نسخ الجوهريِّ_ ولمَّا مات يزيد بن معاوية بويع له بالخلافة، سنة أربع وستِّين، واجتمع على طاعته أهل الحجاز، واليمن، والعراق، وخراسان، ما عدا الشَّام، وجدَّد عِمارة الكعبة، وجعل لها بابين، وأدخل فيها الحِجْر، فهدمها الحجَّاج بن يوسف، وأعادها على ما هي عليه اليوم، وحجَّ عبد الله بالنَّاس ثماني حجج، وبقي في الخلافة إلى أن قتله الحجَّاج، وبعث برأسه إلى خراسان.
          قال الكلاباذي(10) : حدَّث عبد الله عن عمر بن الخطَّاب، وعن أبيه الزُّبير، وخالته عائشة، وسفيان بن أبي زهير. روى عنه أخوه عروة بن الزُّبير، وابنه عامر، وعبد العزيز بن رُفيع، وثابت البُنانيُّ، وعبَّاس بن (سَهْل بن) سعد. نقل عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: في باب إثم من كذب على النَّبيِّ صلعم، من كتاب العلم [خ¦107] .
          وكان وصولاً للرَّحم، عظيم المجاهدة، قال ابن الأثير(11) : قسم عبد الله الدَّهر على ثلاث ليالٍ، فليلة هو قائم إلى الصَّباح، وليلة هو راكع إلى الصَّباح، وليلة هو ساجد إلى الصَّباح. قال مُسْلِمُ بنُ نَيَّاق المكيُّ: ركع ابن الزُّبير ليلة ركعة، فقرأتُ البقرةَ، وآل عمرانَ، والنِّساءَ، والمائدةَ، وما رفع رأسه، فرضي الله عنه. قال قَطَنُ بن عبد الله: رأيت ابن الزُّبير، وهو يواصل من الجمعة إلى الجمعة، فإذا كان عند إفطاره من اللَّيلة المقبلة، يدعو بقدح، ثمَّ يدعو بقَعْبٍ من سمن، ثمَّ يأمر، فيحلب عليه، ثمَّ يدعو بشيء من صبر، فيُذرُّ(12) عليه، ثمَّ يشربه، فأمَّا اللَّبن فيعصمه، وأمَّا السَّمن فيقطع عنه العطش، وأمَّا الصَّبر فيفتح الأمعاء.
          وغزا عبد الله إفريقية مع عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، 6أتاهم جرجير(13) ملك إفريقية في مئة ألف وعشرين ألفاً، والمسلمون عشرون ألفاً، فسُقِطوا في أيديهم، فنظر عبد الله، فرأى جرجيراً قد خرج من عسكره، فأخذ معه جماعة من المسلمين فقصده، فقتله عبد الله، ثمَّ كان الفتح على يده، وشهد الجمل مع الزُّبير مقاتلاً لعليِّ بن أبي طالب، فكان عليٌّ يقول: ما زال الزُّبير منَّا أهل البيت حتَّى نشأ له عبد الله. وامتنع من بيعة يزيد بن معاوية، فأرسل إليه يزيد مسلم بن عقبة المريَّ، فحاصر المدينة، وأوقع بأهلها وقعة الحرَّة المشهورة، فأقام بها ثلاثة أيَّام، وقتل نحو عشرة آلاف نفس، منهم سبعمئة من وجوه النَّاس، فيهم خمسة أو ستَّة من الصَّحابة، وافتضَّ فيها(14) نحو ألف عذراً، ولم يؤذَّن في المسجد ثلاثة أيَّام، وكان يسمع من القبر النَّبويِّ وقت الصَّلوات الخمسة(15) همهمة، وبلغ الدِّماء الحجرة الشَّريفة، ثمَّ سار إلى مكَّة ليقاتل ابن الزُّبير، فأهلكه الله في الطَّريق، / فاستخلف الحُصين بن نُمير السَّلُولِيَّ على الجيش، فسار الحصين، وحاصر مكَّة، لأربع بقين من المحرَّم، سنة أربع وستِّين، وفي هذا الحصار احترقت الكعبة، واحترق قرنا الكبش الذي فدي به إسماعيل ╕ ودام الحصر إلى أن مات يزيد، منتصف ربيع الأوَّل من السَّنة المذكورة، فدعا الحصين ليبايعه، ويخرج معه إلى الشَّام، ويهدر الدِّماء التي بينهما ممَّن قتل بمكَّة والمدينة في وقعة الحرَّة، فلم يجبه ابن الزُّبير، فقال الحصين: قبَّح الله من يعدُّك داهية وأريباً(16) ، أدعوك إلى الخلافة وتدعوني إلى القتل، فلمَّا(17) تولَّى عبد الملك الشَّام ومصر، واستقام له، جهز العساكر إلى العراق، فقتل مصعب بن الزُّبير، وأرسل الحجَّاج بن يوسف إلى مكَّة، فحاصر عبد الله بها أوَّل ذي الحجَّة(18) سنة اثنتين وسبعين، وحجَّ بالنَّاس الحجَّاج، ولم يطف بالبيت، ولا بين الصَّفا والمروة، ونصب منجنيقاً على جبل أبي قُبيس، وضرب الكعبة حتَّى هدَّها. قال الطَّبريُّ(19) : ضرب الحجَّاج الكعبة يوماً بحجر المنجنيق، فرعدت (السَّماء، فأعظم أهل الشَّام ذلك، وأمسكوا أيديهم من القتال، فأخذ الحجَّاج الحجر، فوضعها) في كفَّة المنجنيق، ثمَّ رمى بها، فجاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحاب الحجَّاج اثني عشر رجلاً، فأعظم أهل الشَّام ذلك، وامتنعوا عن القتال، وأنكروا(20) بأنفسهم لامتناعهم عن القتال، فصاح بهم الحجَّاج: لا تنكروا، [فإنَّ] هذه صواعق تهامة، وهذا الفتح قد حضر، فقاتلوا رحمكم الله. فقاتلوا، ورموا بالمنجنيق، فلمَّا كان الغد أتت صاعقة أحرقت من أصحاب عبد الله بن الزبير عشرة رجال، فقال الحجَّاج لأصحابه: ألا ترون أنهم يصابون. فرموا، فأتت صاعقة وأحرقت جماعة من أهل الشَّام، فامتنعوا [من الرَّمي] ، فخطبهم الحجَّاج، وحثَّهم على القتال والرَّمي، وقال: ألم تعلموا أنَّ بني إسرائيل كانوا إذا قربوا قرباناً، فجاءت نار فأكلته علموا أنَّه مقبول، وإلَّا فلا؟ وما زال يخدعهم، ويخطبهم، ويعدهم حتَّى عادوا إلى الرَّمي بالمنجنيق. قال ابن عيينة: فجاءت صاعقة أحرقتهم فامتنعوا من الرَّمي، فحثَّهم الحجَّاج، فرموا حتَّى انتقضت الكعبة، ورموا بكيزان النِّفط والنَّار، فاحترقت السِّتارات، وبقيت رماداً، وجعل الحجَّاج يرتجز، ويقول:
أمَّا تراها ساطعاً غبارُها                     واللَّهُ فيما يَزعمون جارُها
فقد وَهَتْ وصُدِّعَتْ أحجارُها                     وحان من كعبتِه دَمَارُها
ونفرتْ منها معاً أطيارُها                     لمَّا عَلاَها نفطُها ونارُها
          ولم يزل ابن الزُّبير يقاتل في الكعبة، حتَّى لم يبق من أصحابه سوى ثلاثين رجلاً، وخرج الباقون إلى الحَجَّاج بأمان؛ حتَّى إنَّ ولديه(21) حمزة وخُبيب ابني عبد الله بن الزُّبير خرجا إلى الحَجَّاج، فاستأمناه على أنفسهما، وجعل عبد الله بن الزُّبير يقاتل بسيفين ويرتجز [قائلاً] :
أسماءُ يا أسماءُ لا تَبكِيْنِي                     لم يبقَ إلَّا حَسَبِي ودِيْنِي
وصارمٌ لانَتْ به يمَيني
          ولمَّا رأى ما حلَّ من الخِذْلان دخل على أمِّه أسماء، فقال لها: ما رأيك؟ فلم يبق معي أحد. فقالت: يا بني أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنَّك على الحقِّ، وإليه تدعو، فامضِ له، وقد قُتل عليه أصحابُك، ولا تمكِّنْ من رقبتك غلمانَ بني أميَّة، وإن كنتَ إنَّما أردتَ الدُّنيا فبئس العبد أنت. فقبَّلَ رأسها، وقال: والله هذا رأيي، وإنَّ الله ليعلم أنِّي ما أردت إلَّا الحَّق، ولا طلبت غيره، ولا سعيت في رتبة(22) قطُّ، اللهم إنِّي لا أقول ذلك تزكية لنفسي، ولكن لأُطيِّبَ قلب أمِّي، ولكنِّي أحببت أن أعلم رأيك، فزدتيني بصيرة، فانظري يا أمِّي، فإنِّي مقتول في يومي هذا، فلا يشتدَّ حزنك، وسلِّمي الأمرَ (إلى) الله، فإنَّ ابنك لم يتعمَّد إتيان منكر، ولا عملاً بفاحشة، وإنِّي أخاف يا أمَّاه إن قتلوني أن يمثِّلوا بي. فقالت: يا بنيَّ إنَّ الشَّاة إذا ذبحت لا تتألَّم بالسَّلخ. فقال: الحمد لله الذي وفَّقك، فجزاك الله خيراً يا أمَّاه، فلا تتركي الدُّعاء لي قبلُ وبعدُ. فقالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في اللَّيل الطَّويل، وذلك النَّحيب في الهواجر والظَّلماء. فخطب النَّاس، فقال: أيُّها النَّاس، إنَّ الموت قد أظلَّكم سحابُه، وأحدق بكم رَبَابُه، فغضُّوا أبصاركم عن الأبارقة، وليشغل كلُّ امرئ منكم قِرْنَهُ، ولا يقولنَّ قائل: أين أمير المؤمنين؟ أَلا من سأل عنِّي، فإنِّي في الرَّعيل الأوَّل. ثمَّ نزل، فقاتل حتَّى قتل صبيحةَ سابع عشر جمادى الأولى، سنة ثلاث وسبعين، وصلبه الحجَّاج في ثنية الحجون، وبعث رأسه إلى المدينة، فصلبه بها، ثمَّ بعث به إلى عبد الملك بن مروان، ولمَّا قتل عبد الله كبر أهل الشَّام لقتله، فسمعهم عبد الله بن عمر، فقال: الذين كبَّروا لولادته _يعني الصَّحابة_ خير من الذين كبَّروا لقتله. _يعني أهل الشَّام_ ثمَّ مرَّ بابن الزُّبير مصلوباً منكَّساً، فبكى ساعة، واستغفر له، ثمَّ قال: السَّلام عليك أبا خُبيب، لئن عَلَتْكَ رجلاك اليوم، لطالما قمت عليها في ظلمة اللَّيل بين يدي ربِّك، وإنِّي سمعت قوماً يقولون: إنَّك شرُّ هذه الأمَّة. والله لقد أفلحت أمَّة أنت شرُّها. وأقبلت أمُّه أسماء _وهي بنت مئة سنة، لم تسقط لها سنٌّ، ولا فسد عليها رأي ولا بصر، [وسيأتي في رواية أنَّه كفَّ بصرها]_ فبكت حين رأته مصلوباً، وقالت: اللهم إنِّي راضية عنه، فارضَ عنه. ثمَّ أتت الحجَّاج، وقالت: أما(23) آن لهذا الرَّاكب أن ينزل؟ فقال: أمَّا روحه فإلى مالك، وأمَّا جثمانه ففي طريق البلاغ. فقالت: كذبت، إنَّ الله أكرمُ من أن يجمع على ابني سيف القاسطين، ونار الظَّالمين، وقد قال صلعم: «سيكون في أمَّتي أَفَّاكٌ ومُبير». فأمَّا الأفَّاك فعبد الملك، وأمَّا المُبير فأنت. وفي رواية أنَّها قالت: قال رسول الله صلعم: «سيخرج من ثقيف كذَّاب ومبير». فأمَّا الكذاب فالمختار بن (أبي) عُبيد، وأمَّا المبير فأنت. ثمَّ ولَّتْ باكية، فرقَّ الحجَّاج لها، وحطَّ ابنها عن الخشبة، فجهَّزته.
          وفي رواية: رماه في مقابر اليهود بعد الصَّلب، وكتب إلى عبد الملك يخبره بذلك، فكتب إليه يلومه، وقال: ألَّا خلَّيت أمَّه تواريه؟ وفي رواية ابن أبي مُليكة أنَّها قالت له: لوددت أنِّي لا أموت؛ حتَّى أغسِّلَه، وأكفِّنَه، وأحنِّطَه، وأَدْفِنَه. فما لبث حتَّى جاء كتاب عبد الملك يأمر الحجَّاج بدفع عبد الله إلى أهله، فدفعه إليها، فجهَّزته، ولبثت بعده ثلاثة أيَّام، أو خمسة، أو عشرة، فماتت، ومدَّة المحاصرة سبعة أشهر، أو ثمان ونصف، وفي رواية إبراهيم الحربيِّ أنَّ الحجَّاج قطع ابن الزُّبير قطعاً، ثمَّ بعثه إلى أمِّه، وهي مكفوفة، وكانت تغسل قطعة قطعة، وتضعها في الكفن، ومدَّة الصَّلب ثلاثة أيَّام، أو سبعة، وقال الطَّبريُّ: لمَّا صلب عبد الله كان النَّاس يشمُّون منه رائحة المسك، فافتتن أهل الشَّام بذلك، فعلَّق الحجَّاج معه هرَّة منتنة(24) ، لتردَّ ريح المسك، ومدَّة خلافة ابن الزُّبير تسع سنين، وثلاثة أشهر.
          قال عروة بن الزُّبير: لمَّا اشتدَّ الحصار على أخي عبد الله قبل قتله بعشرة أيَّام، دخل على أمِّه، وهي شاكية، فقال: إنَّ في الموت لراحة. فقالت: لعلَّك تمنَّيته لي، ما أحبُّ أن أموت حتَّى يأتي على أحد طرفيك، إمَّا قتلك فأحتسبك، وإمَّا ظفرك بعدوِّك، فقرَّتْ عيني. فضحك، فلمَّا كان اليوم الذي قتل، دخل عليها، فقالت: يا بنيَّ لا تقبلنَّ منه خطَّة، أخاف(25) على نفسك فيها الذُّلَّ، مخافة القتل، فوالله لضربة بالسَّيف في عزٍّ، خير من ضربة بسوط في ذلٍّ. فخرج على النَّاس، فقاتلهم في المسجد، وكان لا يحمل على ناحية إلَّا هزمهم، فأتاه حجر من ناحية الصَّفا، فوقع بين عينيه، فنكَّس رأسه، وهو ينشد _من البحر الطَّويل_:
ولسنا على الأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنا
ولكنْ على أَقْدامِنا يَقْطُرُ الدَّمُ(26)
          [ثمَّ اجتمعوا عليه فقتلوه وصلبوه فلما قتلوه كبَّر أهل الشام، فقال عبد الله بن عمر: المُكبِّرون عليه يوم ولد خيرٌ من المكبِّرين عليه يوم قتل.](27)
          قال يحيى(28) بنُ حَرْمَلَةَ: جاءت أمُّه أسماء _امرأة، طويلة، عجوز، تقاد، مكفوفة البصر_ فقالت للحجَّاج: أما آن للرَّاكب أن ينزل؟ فقال الحجَّاج: المنافق؟ قالت: والله ما كان منافقاً، ولكنَّه كان صوَّاماً، قوَّاماً، وصولاً. فقال: انصرفي، فإنَّك عجوز (قد) خرفت. فقالت: والله ما خرفت يا مُبير. /
          وكان شهماً، وطلَّق أُمَّهُ من أبيه الزُّبير، وقال: [إنَّ] مثلي لا توطأ أمُّه. ولمَّا قُتل عبدُ الله، هرب أخوه عُروةُ إلى عبد الملك مستأمناً، فأكرمه وآمنه(29) ، وبلغ الحجَّاج ذلك، فكتب إلى عبد الملك: إنَّ عامَّة أموال عبد الله عند عروة، ولست أقدر عليه إلَّا أن يوجِّه به أمير المؤمنين إليَّ؛ مع أنَّ الحجَّاج _كما قال ابن الأزهر(30)_ وجد في [بيت] مال ابن الزُّبير عشرة آلاف ألف دينار مرَّتين، فتذمَّم(31) عبد الملك أن يبعث به إليه، واستحى بعد أن آمنه والتجأ إليه، فكتب إليه عبد الملك: إنَّه التجأ إليَّ، وقد أمنته في نفسه وماله وولده، فلا تعاودني في أمره.
          وأقول: قد تذكَّرت مرثيَّة لأبي الحسن، محمَّد بن عمر الأنباريِّ، في محمَّد بن بقيَّة الوزير _وكان قد صُلب، وحُرس باللَّيل؛ [خوفاً] من أن ينزل(32) ، والشُّموع تشعل عنده، وكان كثير الصَّدقات_ وهذه المرثيَّة من أحسن المراثي، وابن الزُّبير أحقُّ بها منه، (وهي هذه)(33) :
عُلُوٌّ في الحياة وفي المَمَاتِ                     لحقٌّ أنتَ إحدى المعجزاتِ
كأنَّ النَّاسَ حولَكَ حين قاموا                     (وفودُ نَدَاكَ أيَّامَ الصِّلاَتِ
كأنَّكَ قائمٌ فيهم خَطيباً                     وكلُّهُمُ قِيَامٌ للصَّلاةِ)
مددتَ يدَيْك نحوَهُمُ احتفاءً                     كَمَدِّكَهَا إليهمْ بالهِبَاتِ
ولمَّا ضاق بَطْنُ الأرض عنْ أَنْ                     تَضُمَّ عُلاكَ من بعد المماتِ
أَصَارُوا الجَوَّ قبرَك واستنابُوا                     عن الأكفانِ ثوبَ السَّافِيَاتِ
لعظمك في النُّفوس تَبيتُ تُرْعَى                      بحُفَّاظٍ وحُرَّاسٍ ثِقَاتِ
وتشعل عندك النِّيران ليلاً                     كذلكَ كنتَ أيَّامَ الحياةِ
ركبتَ مطيَّةً من قبلِ زيدٍ                     عَلاَها في السِّنين الماضياتِ
وتلكَ فضيلةٌ فيها تَأَسٍّ                     تباعد عنك تعيير العِدَاتِ
ولم أَرَ قَبْلَ جِذْعِكَ قَطُّ جِذْعَاً                     تَمكَّنَ مِنْ عِنَاقِ المَكْرُماتِ
أَسَأْتَ إلى النَّوائبِ فاستثارتْ(34)                      فأنتَ قتيلُ ثَأْرِ النَّائباتِ
وكنتَ تُجير من صَرْفِ اللَّيالي                     فعادَ مُطَالِباً لك بالتِّرَاتِ
وصَيَّرَ دهرُك الإحسانَ فيه                     إلينا من عَظيمِ السَّيئاتِ
وكنتَ لمَعْشَرٍ سَعْداً فلمَّا                     مَضَيْتَ تَفَرَّقُوا بالمُنحساتِ(35)
غَليل باطن لك في فؤادي                     يُخَفَّفُ بالدُّموعِ الجارياتِ
ولو أنِّي قَدَرْتُ على قيامٍ                     لفَرْضِكَ والحقوقِ الواجباتِ
ملأتُ الأرضَ من نَظْمِ القَوَافِي                     ونُحْتُ بها خِلافَ النَّائحاتِ
ولكنِّي أصبِّرُ عنكَ نَفْسِي                     مخافةَ أن أُعَدَّ من الجُنَاةِ(36)
وما لك تربة فأقول تُسْقَى                     لأنَّك نصبَ هطل الهاطلاتِ
عليكَ تحيَّةُ الرَّحمنِ تَتْرَى                     بِرَحَمَاتٍ غَوَادٍ رائحاتِ(37)
          ولمَّا سمع هذه المرثيَّةَ الصَّاحبُ ابن عبَّاد، قام إلى الأنباريِّ وعانقه، وقَبَّل فاه، وأنفذه إلى عضد الدَّولة، [بن بويه السُّلطان،] (وهو الذي صلبه)، فلمَّا سمعها، خلع عليه، وأعطاه فرساً، وعشرة آلاف.


[1] في (ن): (فكدت) زالبيت في تاريخ دمشق لابن عساكر مع أبيات سواه:28/261 والرواية فيه: (بعدن)، و48/286 والرواية فيه كما عندنا، والشعر لابن فضالة عبدِ الله، وقيل: لفضالة بن شريك الكاهِلي الأسدي أبيه. وفي خزانة الأدب تنازع الأبيات ثالث هو عبد الله بن الزبير الأسدي.
[2] هكذا تكررت في النسخ جميعها.
[3] الحديث رقم (3909).
[4] شرح البخاري:7/248.
[5] في غير (ن): (لمدة).
[6] 1/501.
[7] مقدمة الفتح: ص475.
[8] شرح البخاري:2/111.
[9] في غير (ن): (ابن عمر.. وابن عمرو).
[10] الهداية والإرشاد:1/387.
[11] أسد الغابة:3/241.
[12] في غير (ن): (فيدره).
[13] في غير (ن): (جرير) في الموضعين، والمثبت موافق لما في أسد الغابة.
[14] في غير (ن): (بها).
[15] في غير (ن): (الخمس).
[16] في (ن): (داهياً أو رئيساً).
[17] في غير (ن): (فيما).
[18] في (ه): (القعدة) ولكن الناسخ أحال إلى الهامش بإشارة لحق إلى كلمة: (الحجة) وكتب بجانبها صح.
[19] في تاريخه:5/29- 30.
[20] في (ن): (وانكسروا).
[21] في غير (ن): (ولده).
[22] في (ن): (ريبة).
[23] في غير (ن): (ما).
[24] في (ن): (ميتة لترويح المسك).
[25] في غير (ن): (تخاف).
[26] البيت لخالد بن الأعلم، وهو في السيرة لابن هشام:2/5، وكان أثبت في المتن (أعقابنا) وكذا في بقية الأصول، وجاء في هامش (ه) بإشارة لحق (جبهاتنا) وهي رواية غريبة؛ إذ المشهور المثبت، وكذا في جُل المصادر التي ورد فيها البيت مع الخبر، وانظر أسد الغابة:3/245.
[27] ما بين معقوفين زيادة من نسخة الأزهر.
[28] في (ن) تصحيفاً: (يعلى).
[29] في غير (ن): (فآمنه وأكرمه).
[30] في (ن) تصحيفاً: (الأز).
[31] في غير (ن): (فتقدم).
[32] في غير (ن): (عن أن ينزلوه).
[33] القصيدة في الوفيات لابن خلكان:5/120- 122. وفي (ن) زيادة في البيت الأول: (منه علو)
[34] في (ن): (فاستثأره).
[35] في (ن) تصحيفاً: (بالمنحسيات).
[36] في (ن) تصحيفاً: (الحياة).
[37] جاء في هامش (ه) ما نصه: يريد زيد بن علي زين العابدين لما صلبه هشام بالكوفة، والقصة مشهورة.