غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

عبد الله بن رواحة

          663 # عبدُ الله بنُ رَوَاحَةَ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ امرىءِ القَيْسِ، الصَّحابيُّ، الخزرجيُّ، الأنصاريُّ، شاعر رسول الله صلعم.
          أحد السَّابقين إلى الإسلام. شهد بدراً، واستشهد بمؤتة، وكان ثالث الأمراء بها، في جمادى سنة ثمان من الهجرة، يكنَّى أبا محمَّد، وقيل: أبا رواحة. وقيل: أبا عمرو. وأمُّه كبشة بنت واقد الحارثيَّة، الخزرجيَّة أيضاً، وشهد العقبة، وكان نقيب بني الحارث بن الخزرج، وشهد بدراً، وأُحُداً، والمشاهد كلَّها خندقاً، [والحديبية] ، وخيبرَ، وعُمرةَ القضاء إلَّا الفتح وما بعده، فإنَّه كان قد قتل، وهو خال النُّعمان بن بَشير.
          أتى عبدُ الله النَّبيَّ صلعم وهو يخطبُ، فسمعه يقول: «اجلسوا» فجلس مكانه خارجاً من المسجد؛ حتَّى فرغ من خطبته، فبلغ ذلك النَّبيَّ صلعم، فقال: «زادك الله حرصاً على طواعية الله، وطواعية رسوله». وكان من عادة عبد الله أنَّه كان أوَّلَ خارج إلى الغزو، وآخِرَ قافل منه، وكان من الشُّعراء الذين يناضلون عن رسول الله صلعم، ومن شعره في مدحه _من البحر البسيط_: /
إنِّي تفرَّسْتُ فيك الخيرَ أعرفُهُ                     والله يعلم أَنْ ما خانَنِي البَصَرُ
أنتَ النَّبيُّ ومَنْ يُحْرَمْ شفاعته                     يومَ الحسابِ فقد أَزْرَى به القَدَرُ
فثبَّتَ اللَّهُ ما آتاكَ من حَسَنٍ                     تثبيتَ موسى ونَصْراً كالذي نُصِروا
          فقال له [رسول الله] صلعم: «ثبَّتك الله يا ابن رواحة». قال هشام بن عروة: فثبَّته الله أحسنَ الثَّبات، فقتل شهيداً، وفتحت له أبواب الجنَّة حتَّى دخلها.
          قال أبو الدَّرداء: أعوذ بالله أن يأتي عليَّ يوم لا أذكر فيه عبدَ الله بن رواحة، كان إذا لقيني مقبلاً ضرب بين ثديَّيَّ، وإذا لقيني مدبراً ضرب بين كتفيَّ، ثمَّ يقول: يا عُويمر، اجلس فلنؤمن ساعة. فنجلس؛ فنذكر الله ما شاء، ثمَّ يقول: يا عُويمر، هذه مجالس الإيمان.
          قال ابن إسحاق: لمَّا أصيب القوم بموته، قال صلعم: «أخذ زيد الرَّاية، فقاتل بها حتَّى قتل، ثمَّ أخذها جعفر، فقاتل بها حتَّى قتل». ثمَّ صمت صلعم حتَّى تغيَّر وجوه(1) القوم، وظنُّوا أنَّه قد كان في عبد الله بن رواحة ما يكرهون، فقال: «ثمَّ أخذها عبد الله، فقاتل بها حتَّى قتل شهيداً، ثمَّ رفعوا [لي] على سرر من ذهب في الجنَّة، فرأيت في سرير عبد الله ازوراراً عن سريري(2) صاحبيه، فقلت: عمَّ هذا؟ فقيل لي: مَضَيَا، وتردَّد عبد الله بعض التَّردُّد، ثمَّ مضى، فقتل». ولم يُعقب عبد الله ولداً.
          قال ابن حجر: روى البخاريُّ في صحيحه من أحاديث عبد الله بن رواحة حديثاً واحداً [خ¦1155] .
          قصَّة غزوة مؤتة على ما حكاه ابن سيِّد النَّاس(3) ، وفيها عن ابن الأثير(4) أيضاً، وذلك أنَّ النَّبيَّ صلعم بعث الحارث بنَ عُمير الأَزْدِيَّ، أحد بني لِهْبٍ بكتابه إلى الشَّام إلى ملك (الرُّوم، وقيل: ملك) بُصْرَى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغَسَّانيُّ، فأوثقه رباطاً، ثمَّ ضرب عنقه صَبْراً، ولم يُقتل له صلعم رسولٌ غيره، فاشتدَّ ذلك عليه حين بلغه الخبر، فبعث بعثاً إلى مؤتة، وأَمَّر عليهم زيد بن حارثة، وقال: إن(5) أصيب زيد، فجعفر بن أبي طالب على النَّاس، وإن أصيب جعفر، فعبد الله بن رواحة على النَّاس، وإن أصيب عبد الله، فليختر المسلمون لأنفهسم رجلاً. فتجهَّز النَّاس، وتهيَّؤوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف، وودَّع النَّاس الأمراء، فلمَّا ودِّع عبد الله بكى، فقالوا: ما يبكيك؟ قال: أما والله ما بي حبُّ الدُّنيا، ولا صبابة بكم(6) ، ولكنِّي سمعت من رسول الله صلعم قرأي آية من كتاب الله يذكر فيها النَّار / { وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا } [مريم:71] فلست أدري كيف لي بالصَّدَرِ بعد الورود؟ فقال المسلمون: صحبكم الله، ودفع عنكم، وردَّكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة _من البحر البسيط_ [أيضاً](7) :
لكنَّني أسألُ الرَّحمنَ مغفرةً                     وضربةً ذاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا
أو طعنةً بيدَي حَرَّانَ مُجهزةً                     بِحَرْبةٍ تَنْفُذُ الأحشاءَ والكَبِدَا
حتَّى يقالَ إذا مَرُّوا على جَدَثِي                     أَرْشَدَهُ اللَّهُ مِنْ غازٍ وقد رَشَدَا
          ثمَّ أتى عبدُ الله رسولَ الله صلعم فودَّعه، ثمَّ انصرفوا حتَّى نزلوا مَعَانَ من أرض الشَّام، فبلغهم أنَّ هِرَقْلَ نزل بمُآب(8) من أرض البلقاء، في مئة ألف من الرُّوم، وانضمَّ إليه مئة ألف من المستعربة، لَخْم، وجُذَام، وبَهْراء، وغيرهم، فأقام المسلمون على مَعَانَ ليلتين يتفكَّرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول(9) الله صلعم نخبره بعدد العدوِّ، فإمَّا أن يمدَّنا برجال، وإمَّا أن يأمرنا بأمره، فنمضي له. فشجَّع النَّاسَ عبدُ الله، فقال: يا قوم، والله إنَّ الذي تكرهون هو الذي خرجتم تطلبون الشَّهادة، وما نقاتل بعدد ولا قوَّة، ولا نقاتلهم إلَّا بهذا الدِّين الذي أكرمنا الله به، فانطلِقوا، فإنَّما هي إحدى الحُسنيين، إمَّا الظُّهور عليهم، وإمَّا الشَّهادة. فساروا حتَّى لحقوا الرُّوم بقرية من قرى البلقاء، يقال لها: مَشَارف، ثمَّ دنا العدوُّ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها: مؤتة، فتهيَّأ المسلمون للكفَّار، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عُذْرَةَ، يقال له: قُطْبَةُ بنُ قَتَادَةَ، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار، يقال له: عبايةُ بنُ مالكِ، ويقال: عبادة، بالمهملة، وبالتَّحتيَّة(10) المثنَّاة، ثمَّ اقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة بالرَّاية، حتَّى شاط في رماح القوم، ثمَّ أخذها جعفر، فقاتل بها، حتَّى إذا ألجمه القتال، اقتحم عن فرس له شقراء، فعقرها، ثمَّ قاتل، حتَّى قتل، وهو أوَّل من عَرْقَبَ فرساً في الإسلام، وروي أنَّه أخذ الرَّاية بيمينه، حتَّى قطعت يمينه، ثمَّ أخذها بيساره، فقاتل، حتَّى قطعت يساره، فاحتضن الرَّاية، وقاتل، حتَّى استشهد، وله ثلاث أو أربع وثلاثون سنة، ثمَّ أخذها عبد الله، وتقدَّم بها، وهو على فرسه، وتردَّد بعض التَّردُّد، ثمَّ نزل، فلمَّا نزل، أتاه ابن عمٍّ له بعظم من لحم، فقال: شُدَّ بهذا(11) صُلبك، فإنَّك لقيت أيَّامك هذه ما لقيت. فأخذه من يده، فانتهش نهشة، ثمَّ سمع الحَطْمَةَ في ناحية القوم، فقال: هذه وأنت في الدُّنيا. فألقى العظم من يده، وأخذ سيفه، وقاتل حتَّى استشهد، قال ابن الأثير(12) : لمَّا استشهد جعفر دعا النَّاسُ عبد الله، وهو في جانب العسكر، فتقدَّم /
          وهو يخاطب نفسه _مرتجزاً(13)_:
يا نفسُ إن لم تُقتلي تموتِي
هذا حِياضُ الموتِ قد صَلِيْتِ
وما تمنَّيتِ فقد لَقِيْتِ
إنْ تَفْعَلِي فِعْلَيهما هُدِيْتِ
وإنْ تأخَّرتِ فقد شَقِيْتِ
          يريد فعل زيد وجعفر، ثمَّ قال: يا نفس، إلى أيِّ شيء تتوقين؟ إلى فلانة _يعني امرأتَه_ فهي طالق، وإلى فلان، وفلان، وفلان _غلمان له_ فهم أحرار، وإلى معجف _يعني بستاناً له_ فهو لله ولرسوله، ثمَّ أنشد [مرتجزاً](14) :
يا نفسُ مالك تكرهينَ الجَنَّهْ
أُقسم باللَّهِ لتَنْزِلِنَّهْ
طائعةً أو لتُكْرَهِنَّه
فطالمَا قد كنتِ مطمئنَّهْ
هل أنتِ إلَّا نطفةٌ في شَنَّهْ
قد أَجْلَبَ النَّاسُ وشَدُّوا الرَّنَّهْ
          ثمَّ نزل للقتال، فلمَّا طُعن، استقبل الدَّم بيده، فدلك به وجهه، ثمَّ صُرع بين الصَّفين، وهو يقول: يا معشر المسلمين، ذُبُّوا عن لحم أخيكم، فجعل المسلمون يحملون وراءه حتَّى يحوزونه، فلم يزالوا كذلك، حتَّى استشهد مكانه.
          قال ابن سيِّد النَّاس(15) : ثمَّ أخذ الرَّاية ثابت بن أَقْرَمَ، أخو بني العَجْلان، وقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم. قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل. فاصطلحوا على خالد بن الوليد، فلمَّا أخذ الرَّاية دافع القوم، وحاشى(16) بهم، حتَّى انصرف النَّاس، وكان الهزيمة على الرُّوم، وهكذا في صحيح البخاريِّ، وقيل على المسلمين، والمختار _كما قال ابن إسحاق_ انحياز كلِّ فئة عن الأخرى، من غير هزيمة.
          قال ابن الأثير(17) : لمَّا سار عبد الله إلى مؤتة كان زيد بن أرقم يتيماً في حجره، فحمله على حقيبة رحله، فسمعه زيد من اللَّيل، وهو يتمثَّل أبياته _من البحر الوافر_(18) :
إذا أدنيتِني وحملتِ رَحْلِي                     مسيرةَ أربعٍ بعدَ الحساءِ
فشأنَكِ فانعَمِي وخَلاَكِ ذمٌّ                     ولا أَرْجِعْ إلى أهلي ورائي
وجاء المؤمنونَ وغادَروني                     بأرضِ الشَّامِ مشهورَ الثَّوَاءِ
وردَّكِ كلُّ ذي نَسَبٍ قَريبٍ                     إلى الرَّحمنِ مُنقطِعَ الإخاءِ
هنالِك لا أُبالي طَلْعَ بَعْلٍ                     ولا نَخْلٍ أَسَافِلُهَا رُوَراءِ
          فلمَّا سمعه زيد بكى، فضربه بالدِّرَّةِ، وقال: مالكَ يا لُكَعُ أن يرزقني الله الشَّهادة، وترجع بين شُعبتَي(19) الرَّحل؟ ولزيد يقول عبد الله _من البحر الرَّجز(20)_:
يا زيدُ زيدَ اليَعْمَلاتِ الذُّبَّلِ
تَطَاولَ اللَّيلُ هُدِيْتَ فانزِلِ
          يعني: انزلْ فَسُقْ بالقوم.
          قال صلعم: «مُثِّلَ لي جعفر، وزيد، وابن رواحة في خيمة من دُرٍّ، كلُّ واحد منهم على سرير»، وقال في حقِّ جعفر: «إنَّ الله أبدله بيديه جناحَين يطير بهما في الجنَّة».
          وقد مضى / في ترجمته عن ابن عمر: وجدنا(21) ما بين صدر(22) جعفر، ومنكبيه، وما أقبل منه تسعين جراحة، ما بين ضربة بالسَّيف، وطعنة بالرُّمح، وقدَّم يَعْلَى بن مُنْية على رسول الله صلعم بخبر أهل مؤتة، فقال له صلعم: «إن شئت أخبرتني، وإن شئت أخبرتك». قال: فأخبرني يا رسول الله؟ فأخبره خبرهم كلَّه، ووصفهم له، فقال: والذي بعثك بالحقِّ، ما تركت من حديثهم حرفاً واحداً لم تذكره، وإنَّ أمرهم لكما ذكرت. فقال صلعم: «إنَّ الله تعالى رفع [لي] الأرض حتَّى رأيت معركتهم».
          قوله: «لا أرجعْ» في البيت، مجزومٌ بالدُّعاء، ومعناه: اللهم، لا أرجع، وهذا الدُّعاء ينجزم به الأمر والنَّهي. قاله ابن سيِّد النَّاس(23) .


[1] في غير (ن): (وجه).
[2] في (ن): (سرير).
[3] عيون الأثر 2/165 والقصة مع الشعر فيه.
[4] الخبر مع الشعر في سيرة ابن هشام:2/379 مع اختلاف في الرواية، وذكرهما ابن عبد البر في الاستيعاب:3/900، وأسد الغابة:3/239- 240.
[5] في غير (ن): (إذا).
[6] في (ن): (لكم).
[7] في (ن): (جسدي) بدل (جدثي).
[8] في (ن) تصحيفاً: (مأرب).
[9] في (ن): (لرسول).
[10] في غير (ن): (والتحتية).
[11] في غير (ن): (بها).
[12] في أسد الغابة:3/240.
[13] الرواية في (ن): (إن لا تقتلي) و(فعلهما).
[14] الرواية في (ن): (وشد الرنة).
[15] عيون الأثر:2/167.
[16] في غير (ن): (وجاش).
[17] أسد الغابة:3/238 والخبر مع الشعر فيه.
[18] الرواية في (ن): (وعاذروني) و(ولا تخلى) بدل (وغادروني) و(ولا نخل).
[19] في (ن) تصحيفاً: (شعتي).
[20] الرواية في (ن): (تطال) بدل (تطاول).
[21] في (ن) تصحيفاً: (وعدنا).
[22] في (ن) تصحيفاً: (صدره).
[23] عيون الأثر:2/169- 170، والخبر السابق مع الشعر فيه.