غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

عبد الله بن عباس

          684 # عبدُ الله بنُ عَبَّاس بنِ عبد المطلَّب، الهاشميُّ، الصَّحابيُّ ابنُ الصحابِيَّيْنِ، المكِّيُّ.
          ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، أمُّه أمُّ الفضل لُبابةُ بنتُ الحارث، وخالته ميمونة زوج النَّبيِّ صلعم، وتوفِّي رسول الله صلعم وله ثلاثَ عشرةَ(1) سنة.
          قال ابن عبَّاس _كما وقع في صحيح البخاريِّ [خ¦1857]_ مررت بمنى _يعني في حجَّة الوداع_ والنَّبيُّ صلعم يصلِّي بالنَّاس، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام.
          قال الكرمانيُّ(2) : روى عن رسول الله صلعم ألف حديث وستَّ مئة وستِّين حديثاً. ذكر البخاريُّ منها مئتين وخمسة عشر حديثاً.
          وروى عن: عمر بن الخطَّاب، وأبي طلحة، وأسامة بن زيد، والصَّعْبِ بنِ جثَّامةَ اللَّيثيِّ، وأبي سفيان بن حرب، وابنه معاوية، وأُبَيِّ بنِ كَعْب، وأخيه الفَضْلِ بنِ عَبَّاس.
          وروى عنه: الشَّعبيُّ، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يسار، وعُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، وعُبيد الله بن عبد الله بن أبي ثَور، وعكرمة، وأبو الشَّعثاء، وكُرْيب، وأبو العالية.
          نقل عنه البخاريُّ بالواسطة / في مواضع، أوَّلها: في (باب) بدء الوحي [خ¦5] ، من أوَّل الصَّحيح.
          قال ابن الأثير(3) : كنيته أبو العبَّاس، كُنِّي بأكبر أولاده العبَّاس، وهو ابن خالة خالد بن الوليد، وكان يلقَّب بالبحر لسعة علمه، ويسمَّى حبر الأمَّة. ولد والنَّبيُّ صلعم بالشِّعْب من مكَّة، فأتي به النَّبيُّ صلعم فحنَّكه بريقه، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل: غير ذلك. ورأى جبريل عند النَّبيِّ صلعم مرَّتين، ودعا له النَّبيُّ صلعم مرَّتين.
          قال ابن عبَّاس: ضمَّني النَّبيُّ صلعم إلى صدره، وقال: «اللهم علِّمه الحكمة»(4) . قال الطَّبريُّ: دعا له رسول الله صلعم، ومسح برأسه، وتفل في فيه، وقال: «اللهم فقِّهه في الدِّين، وعلِّمه التَّأويل والحكمة، وبارك فيه، وانشر منه، وآته الحكمة». فاستجاب الله تعالى منه، وآتاه من العلم ما لا يمكن شرحه، فيسمَّى ترجمان القرآن، والنَّقَّاب؛ لكثرة علمه، وبارَك فيه، ونشر منه، فخلفاء بني العبَّاس كلُّهم منه، وقد ورد أخبار دالَّة على البشارة بخلفاء بني العبَّاس، منها ما روي أنَّ النَّبيَّ صلعم قال للعبَّاس: «ألا أبشِّرك أنَّ الله افتتح بي هذا الأمر وبذرِّيَّتك يختمه(5) »؟ وقال: «يكون من ولد العبَّاس ملوك وأمراء، (يَلُونَ أَمْرَ) أمَّتي، يعزُّ الله بهم الدِّين».
          قال ابن أبي نجيح: كان أصحاب ابن عبَّاس يقولون: إنَّه أعلم من عُمَرَ، وعليٍّ، وابن مسعود. فيعيب النَّاس عليهم قولهم، فيقولون: إنَّ أحد هؤلاء كان عنده من العلم ما لم يكن عند أصحابه(6) ، وإنَّ ابن عبَّاس جمع ذلك كلَّه.
          قال ابن عبَّاس: أتيت رسول الله صلعم وعنده جبريل، فقال جبريل: إنَّه كائن حبْرَ(7) هذه الأمَّة، فاستوص به خيراً. فوضع صلعم يده على صدري، فوجدت بَرْدَها في ظهري، ثمَّ قال: «احشِ جوفَه حُكْمَاً وعِلْماً». قال: فلم أستوحش في نفسي إلى مسألة أحد من النَّاس.
          وكتب هرقل إلى معاوية يسأله عن المَجَرَّةِ، وعن قَوْسِ قُزَحٍ، وعن مكان من الأرض طلعتْ عليه الشَّمس، ولم تطلع قبل ذلك، ولا بعده، فقال معاوية: مَنْ لهذا؟ فقيل: ابن عبَّاس. فكتب إليه، فقال: أمَّا المَجَرَّةُ فباب السَّماء الذي ينشقُّ منه، وأمَّا القوس فأمان لأهل الأرض من الغرق، وأمَّا المكان فهو الذي انفرج من البحر لبني إسرائيل.
          وبعث ملك الرُّوم بقارورة إلى معاوية يمتحنه بها، وقال: ابعث لي فيها من كلِّ شيء. فبعث إلى ابن عبَّاس، فقال له املأها ماء. فملأها، وبعثها إليه، فقال ملك الرُّوم: لله أبوه ما أدهاه! وكان ابن عبَّاس استظهر(8) قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [الأنبياء:30] ، وقال ابن عبَّاس: نحن، أهلَ البيت(9) ، شجرةُ النُّبوَّة، ومختلَفُ الملائكة، وأهل بيت الرِّسالة، وأهل بيت الرَّحمة، ومعدن العلم.
          وكان عمر إذا جاءته الأقضيةُ المُعْضِلَةُ قال لابن عبَّاس: إنَّها(10) قد طرأت علينا أقضية وعضلت، فأنت لها أهل ولأمثالها. ثمَّ يأخذ بقوله، وما يدعو لذلك أحداً سواه.
          قال عُبيد الله بنُ عبد الله بن عُتبة: هذا وعُمر عمر! يعني في حذقه، واجتهاده لله وللمسلمين، وقال عُبيد الله: إنَّ ابن عبَّاس قد فاق النَّاس بخصال: بعلم ما سبق، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم، ونسب، ونائل(11) ، وما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلعم منه، ولا بقضاء أبي بكر، وعمر، وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا أعلم بشعر، ولا عربيَّة(12) ، ولا تفسير القرآن، ولا بحساب، ولا بفريضة منه، ولا أثقب رأياً فيما احتيج إليه منه، ولقد كان يجلس يوماً، ولا يذكر فيه إلَّا الفقه، ويوماً التَّأويل(13) ، [ويوماً المغازي، ويوماً الشِّعر،] ويوماً أيَّام العرب، ولا رأيت عالماً قطُّ جلس إلَّا خضع له، وما رأيت سائلاً قطُّ سأله إلَّا وجد عنده علماً.
          قال ليث(14) بن أبي سُليم: قلت لطاووس: لزمت هذا الغلام _يعني ابن عبَّاس_ وتركت الأكابر من أصحاب رسول الله صلعم ! قال: إنِّي رأيت سبعين رجلاً من أصحاب رسول الله صلعم، إذا تدارؤوا في أمر صاروا إلى ابن عبَّاس.
          قال شُعيب بن درهم: كان هذا المكان _وأومأ إلى مجرى الدُّموع من خدِّ ابن عبَّاس_ مثل الشِّراك البالي(15) من كثرة البكاء، واستعمله عليُّ بن أبي طالب على البصرة أميراً، ثمَّ فارقها قبل أن يُقتل عليٌّ، وعاد إلى الحجاز، وشهد معه صِفِّين، وكان أحدَ الأمراء فيها.
          عن ابن عبَّاس ☻ قال: كنت خلف رسول الله صلعم فقال: «يا غلام، إنِّي أعلِّمك كلمات: احفظ الله يحفظك [الله] ، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، / واعلم أنَّ الأمَّة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلَّا بشيء كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيء لم يضرُّوك إلَّا بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفَّت الصُّحف».
          ولمَّا وقعت الفتنة بين عبد الله بن الزُّبير وبين عبد الملك بن مروان ارتحل محمَّد بن الحنفيَّة وعبد الله بن عبَّاس بأولادهما ونسائهما حتَّى نزلوا مكَّة، فبعث عبد الله بن الزُّبير إليهما يبايعان، فأبيا، وقالا: أنت وشأنك، لا نتعرَّض لك ولا لغيرك. فأبى، وألحَّ عليهما إلحاحاً شديداً، فقال لهما فيما يقول: لتبايعانِّ أو لأحرِّقنَّكُما بالنَّار. فبعثا أبا الطُّفيل إلى شيعتهم(16) بالكوفة، وقالا: إنَّا لا نأمن هذا الرَّجل. فانتدب أربعة آلاف، فدخلوا مكَّة، فكبَّروا تكبيرة سمعها أهل مكَّة وابن الزُّبير. فانطلق هارباً حتَّى دخل دار النَّدوة، ويقال: تعلَّق بأستار الكعبة(17) ، وقال: إنِّي عائذ بالبيت. [ثمَّ مال الكوفيُّون إلى ابن عبَّاس وابن الحنفيَّة وأصحابهما، وهم في دور قريبة من المسجد، قد جُمع الحطب،] فأحاط بهم حتَّى بلغ رؤوس الجدر، لو أنَّ ناراً تقع فيه(18) ما رئي منهم أحد، فأخَّروه عن الأبواب، وقالوا لابن عبَّاس: ذرنا نريح المسلمين منه. فقال: لا، هذا بلد حرام حرَّمه الله، ما أحلَّه الله (لأحد) إلَّا للنَّبيِّ صلعم ساعة، فتحملوا. وإذا بمنادٍ ينادي في الخيل: ما غنمت سريَّة بعد نبيِّها ما غنمت هذه السَّريَّة، إنَّ السَّرايا تغنم الذَّهب والفضَّة، وإنَّما غنمتم دماءنا. فخرجوا بهم حتَّى أنزلوهم منىً، فأقاموا ما شاء الله، ثمَّ خرجوا بهم إلى الطَّائف، فمرض عبد الله بن عبَّاس، فقال في مرضه: إنِّي أموت في خير عصابة على وجه الأرض، أحبِّهم إلى الله، وأكرمهم عليه، وأقربهم إلى الله زلفى، فإن متُّ(19) فيكم، فأنتم هم. فما لبث بعد هذا القول إلَّا ثمان ليال حَّتى توفِّي، فصلَّى عليه محمَّد بن الحنفيَّة.
          قال ابن مسعود: نِعْمَ ترجمان القرآن ابن عبَّاس. وهو أحد العبادلة: ابن عمر(20) ، وابن عمرو، وابن الزُّبير، وابن عبَّاس. لا ابن مسعود على الأصحِّ، وهو أحد الصَّحابة الذين أكثروا نقل الحديث، وهم ستَّة: عمر، وابن عمر، وأبو هريرة، وابن عبَّاس، وعائشة، وجابر بن عبد الله، وليس أحد يُروى عنه الفتوى أكثر من ابن عبَّاس، وكان طويلاً؛ لمَّا يقوم كان أطولُ النَّاس إلى مَنْكِبِه، وكان هو إلى منكب أبيه، وكان أبوه إلى منكب أبيه عبد المطَّلب، ومناقبه: أنَّ رسول الله صلعم حنَّكه بريقه / كابن الزُّبير، وقال ابن الحنفيَّة يوم مات ابن عبَّاس: مات اليوم ربَّانيُّ هذه الأمَّة.
          قال عطاء: ما رأيت القمر ليلة البدر إلَّا ذكرت وجه ابن عبَّاس من حسنه، وقد عمي في آخر عمره، وكذا أبوه العبَّاس، وجدُّه عبد المطَّلب.
          قال ميمون بن مِهْران: شهدت جنازة ابن عبَّاس، فلمَّا وُضعت ليصلَّى عليه جاء طائر أبيض حتَّى وقع على أكفانه، ثمَّ دخل فيها، فالتمس، فلم يوجد، فلمَّا سُوِّيَ عليه التُّراب سمعنا { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي } [الفجر:27-30] .
          قال الغزاليُّ في الإحياء(21) : اجتمع قرَّاء البصرة إلى ابن عبَّاس، وهو عامل البصرة، فقالوا: لنا جار صوَّام قوَّام يتمنَّى كلُّ واحد منَّا أن يكون مثله، وقد زوَّج بنتاً له من ابن أخيه، وهو فقير، وليس عنده ما يجهِّزها به. فقام عبد الله بن عبَّاس، فأخذ بأيديهم، وأدخلهم داره، وفتح صندوقاً، وأخرج منه ستَّ بِدَرٍ(22) ، كلُّ بَدْرةٍ عشرةُ آلاف درهم، فقال: احملوا. فحملوها، فقال ابن عبَّاس: ما أنصفناه، حيث أعطيناه ما أشغلناه عن(23) قيامه وصيامه، ارجعوا بنا نكن أعوانه على تجهيزها، فليس للدُّنيا من القدر ما تشغل مؤمناً عن عبادة ربِّه، وما بِنَا مِنَ الكِبْر ما يحرم أولياء الله. ففعل، وفعلوا، وكان من الجود على(24) جانب عظيم، ولمَّا ورد عليه البصرة أبو أيُّوب الأنصاريُّ، خرج عن داره بما فيها، ووهبها(25) له، وقال: إنَّه فعل بالنَّبيِّ صلعم هكذا لمَّا ورد المدينة.
          توفِّي بالطَّائف سنة ثمان وستِّين، وقيل: سنة سبعين، أو ثلاث وسبعين. وهو _كما قال ابن الأثير(26)_ غريب، وعمره سبعون أو إحدى وسبعون، وكان يصفِّر لحيته، وقيل: كان يخضب بالحنَّاء. وكان جميلاً، أبيض، طويلاً، جسيماً، وسيماً، صبيح الوجه، فصيحاً، وحجَّ بالنَّاس لمَّا حُصر عثمان، ولمَّا عمي أنشد في ذلك _من البحر البسيط_:
إنْ يأخذِ اللَّهُ من عينيَّ نورَهما                     ففي لساني وقلبي منهما نورُ
قلبي ذكيٌّ وعقلي غيرُ ذي دخَلٍ                     وفي فَمِي صارمٌ كالسَّيفِ مأثورُ


[1] في (ن): (ثلاث عشر).
[2] شرح البخاري:1/46.
[3] أسد الغابة:3/295- 296.
[4] في غير (ن): (الكتاب) وفي الحلية:1/167 وأسد الغابة:3/296: «اللهم علِّمه الحكمة». وأخبار ابن عباس فيهما.
[5] في (ن) تصحيفاً: (بخيمة).
[6] في (ن): (صاحبه).
[7] في (ن) تصحيفاً: (خبير).
[8] في غير (ن): (يستنبطها من).
[9] سقطت كلمة (البيت) من (هـ).
[10] في غير (ن): (إنه).
[11] في (ن): (نابل).
[12] في (ن) و(هـ): ولا غريبة.
[13] في غير (ن): (للتأويل).
[14] في غير (ن): (الليث) وفي (ن): تصحيفاً: (بن أبي نعيم).
[15] في (ن): (ليالي).
[16] في (ن): (أتى بشيعتهم).
[17] سقطت (الكعبة) من (هـ).
[18] في (ن): (منه).
[19] في (ن) تصحيفاً: (من).
[20] في (ن): (وابن عمر).
[21] 4/454.
[22] في (ن): (بدور).
[23] في (ن): (من).
[24] في (ن): (عن).
[25] في (ن) تصحيفاً: (وهيها).
[26] أسد الغابة:3/299، والشعر مع أخباره فيه، والرواية في غير (ن): وعقلي غير ذي خَللٍ.