غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

عبد الوارث بن سعيد

          873 # عبد الوارث بن سعيد، أبو عبيدة التَّميميُّ(1) ، العنبريُّ مولاهم، البصريُّ، التَّنُّوريُّ، بفتح المثنَّاة، وشدَّة النُّون.
          ثقة ثبت، رمي بالقدر، ولم يثبت عنه.
          سمع: عبد العزيز بن صُهيب، وأبا التَّيَّاح، وخالداً الحذَّاء، وحسيناً المعلم.
          روى عنه: ابنه عبد الله، وأبو مَعْمَر، وعِمْرانُ بن ميسرةَ، ومسدَّد.
          نقل عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: في باب قوله صلعم: اللهم علِّمه الكتاب، من كتاب العلم [خ¦75] .
          قال ابن حجر(2) : هو من مشاهير المحدِّثين ونبلائهم، أثنى شعبة على حفظه، وقيل لابن معين: من أثبت شيوخ البصريِّين؟ فعدَّه فيهم، وقدَّمه مرَّة على ابن عُليَّة في أيُّوب، ووثَّقه أبو زرعة، والنَّسائيُّ، وابن سعد، (وابن نُمير)، والعجليُّ، وأبو حاتم، وزاد: هو أثبت من حمَّاد بن سلمة. وذكر أبو داود أنَّ حمَّاد بن زيد كان نهاهم(3) عنه؛ لأجل القول بالقدر، وقال البخاريُّ: قال عبد الصَّمد بن عبد الوارث: ما سمعت أبي يقول شيئاً قطُّ(4) في القدر، إنَّه لمكذوب عليه. وقال هُدْبَةُ بنُ خالد: سمعت عبد الوارث يقول: ما رأيت الاعتزال قطُّ. قال السَّاجيُّ: ما وضع عنه إلَّا القدر. قال ابن حجر: يحتمل أنَّه رجع عنه، بل الذي اتَّضح لي أنَّهم اتَّهموه به؛ لأجل ثنائه على عمرو بن عُبيد، فإنَّه كان يقول: لولا أنِّي أعلم أنَّه صدوق ما حدَّثت عنه. وأئمَّة الحديث كانوا يكذِّبون عمرو بن عُبيد، وينهون عن مجالسته، وقد احتجَّ به الجماعة.
          توفِّي سنة ثمانين ومئة، وذكرنا عن عبد الوارث حكاية لطيفة، في ترجمة جابر بن عبد الله، فراجعها.
          تكملة:
          عمرو بن عُبيد المذكور، هو عمرو الزَّاهد، كان أثر السُّجود (في وجهه) بين عينيه، وسئل الحسن البصريُّ عنه، فقال: لقد سألت عن رجل كأنَّ الملائكة أدَّبته، وكأنَّ الأنبياء ربَّته، / إن قام بأمر قعد به، (وإن قعد بأمر قام به،) وإن أمر بشيء كان ألزم النَّاس له، وإن نهى عن شيء كان أترك النَّاس له، ما رأيت ظاهراً أشبه بباطن، ولا باطناً أشبه بظاهر منه، ومع هذا كان شيخ المعتزلة في وقته. وله كلام كثير في العدل والتَّوحيد، وله كتاب الردِّ على القدريَّة، ولمَّا نزل به الوفاة، قال لصاحبته(5) : نزل بي الموت، ولم أتأهَّب له، ثمَّ قال: اللهم إنَّك تعلم أنَّه لم يسنح لي أمران، في أحدهما رضى لك، وفي الآخر هوىً لي إلَّا اخترت رضاك على هواي، فاغفر لي. وكان أبوه عُبيد من سبي كابل هنديًّا(6) ، خليفة الشرطة بالبصرة، فكان النَّاس إذا رأوا عَمْراً مع أبيه قالوا: هذا خير النَّاس. فيقول أبوه: صدقتم، هذا إبراهيم، وأنا آزر. وقيل لأبيه: إنَّ ابنك عَمْراً يختلف إلى الحسن البصريِّ، ولعلَّه يكون خيراً. قال: وأيُّ خير يكون مع ابني، وقد أصبت أمَّه من غلول، وأنا أبوه؟ وقال لعمروٍ أبو جعفر المنصور الخليفةُ _وكان صاحبه وصديقه قبل الخلافة_: عظني، قال: بما رأيت أو بما سمعت؟ قال: بما رأيت. قال: مات عمر بن عبد العزيز، فخلَّف أحد عشر ابناً، وسبعة عشر ديناراً، كفِّن منها بخمسة دنانير، واشتُرِيَ موضع لقبره بدينارين، وأصاب كلُّ واحد من ولده ثمانية عشر قيراطاً، أقل من دينار، ومات هشام بن عبد الملك، فخلَّف أحد عشر ابناً، فأصاب كلُّ واحد من ولده ألفَ ألفِ دينار، ورأيت رجلاً من ولد عمر بن عبد العزيز قد حمل على مئة فرس في سبيل الله، ورأيت رجلاً من ولد هشام سأل(7) النَّاس ليتصدَّقوا عليه. ووعظه يوماً بكلام طويل افتتحه بأن قال: إنَّ الله قد أعطاك الدُّنيا بكمالها، فاشتر نفسك منه ببعضها، واعلم بأنَّك واقف بين يديه، وسائلك عن مثاقيل الذَّرِّ من الخير والشَّرِّ، وأنَّه لا يرضى منك إلَّا بما ترضى [منه] لنفسك، ألا وإنَّك لا ترضى إلا بأن يعدل عليك، والله تعالى لا يرضى إلَّا بالعدل على الرَّعيَّة، يا أمير المؤمنين! إنَّ وراءك ناراً تتأجَّج من الظُّلم والجور، ثمَّ تلا { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } [الفجر:6] إلى قوله: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } [الفجر:14] يا أمير المؤمنين! لمن عمل مثل أعمالهم، وفعل مثل أفعالهم، يا أمير المؤمنين، لولا أنَّها مضت عمَّن كان قبلك لم يصل إليك منها شيء، واعلم أنَّك وارث من مضى، ومورث غداً، قائم على ربِّك، ومجزيٌّ بعملك، فاتَّق ليلة المَخْضِ، عن يوم لا ليلة بعده، وهي يوم القيامة. في كلام طويل، وعتاب كثير بينهما، فلمَّا أراد النُّهوض قال: قد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم. قال: لا حاجة لي بها. قال: والله تأخذها. قال: والله لا آخذها. وكان المهديُّ ولد المنصور حاضراً، فقال: يحلف أمير المؤمنين، وتحلف أنت؟! فالتفت عمرو إلى المنصور، فقال: من هذا الفتى؟ قال: هذا المهديُّ، ولدي ووليُّ عهدي. قال: أما إنَّك قد ألبسته لباساً، ما هو من لباس الأبرار، وسمَّيته باسم ما استحقَّه، ومهَّدت له أمراً أمتع ما يكون به، أشغل ما يكون عنه. ثمَّ التفت عمرو إلى المهديِّ، وقال: نعم يا ابن أخي، إذا حلف أبوك حنَّثه عمُّك؛ لأنَّ أباك أقوى على الكفَّارة من عمِّك. فقال الخليفة: / هل من حاجة؟ قال: نعم، لا تبعث إليَّ حتَّى آتيك. قال: إذاً لا تأتيني(8) أبداً. قال: هي حاجتي. ومضى، فأتبعه المنصور طرفه، وقال:
كلُّكم يمشي رُوَيْد(9)
كلُّكم طالبُ صَيْد
غير عَمْرِو بن عُبيدْ
          وتوفِّي عمرو سنة أربع وأربعين، [منصرفه مكَّة، بمَرَّان، في الطَّريق] .


[1] في (ن) تصحيفاً: (التيمي).
[2] مقدمة الفتح: ص422.
[3] في غير (ن): (ينهاهم).
[4] في غير (ن) تقدمت كلمة (قط) إلى قبل قوله (يقول).
[5] في (ن): (لصاحبه) والمثبت أولى.
[6] في (ن): (هندي أبوه خليفة..).
[7] في غير (ن): (يسأل).
[8] في (ن) تصحيفاً: (لا تأتني).
[9] في الأصل: (رويداً) والمثبت من سير أعلام النبلاء:6/105، ووفيات الأعيان:3/461، والخبر فيه.