غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

عبد الله بن مسعود

          727 # عبدُ الله بنُ مَسْعود بنِ غَافِل _بمعجمة، بعد الألف فاء_ ابن حَبيب، الهُذَلِيُّ _بضمِّ الهاء، وفتح المعجمة_ الصَّحابيُّ، أبو عبد الرَّحمن.
          من السَّابقين الأوَّلين، ومن كبار العلماء، مناقبه جَمَّة. وهو حليف بني زُهرة بن كِلاب، وهو أخو عتبة بن مسعود، وأمُّهما أمُّ عبدٍ بنتُ عبدِ وُدٍّ.
          سمع رسول الله صلعم، وروى عنه ثمان مئة وثمانية وأربعين حديثاً، نقل البخاريُّ منها خمسة وثمانين(1) حديثاً.
          روى عنه: أبو وائل، وقيس بن أبي حازم، وأبو عثمان النَّهديُّ، [وأبو عمرو الشَّيبانيُّ،] وعمرو بن ميمون، وعلقمة، والأسود.
          نقل عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: في أوَّل كتاب الإيمان [خ¦8] .
          وأسلم قبل عمر بن الخطَّاب، قال: لقد رأيتني سادس ستَّة في الإسلام، ما على وجه الأرض مسلم غيرنا. هاجر إلى الحبشة، ثمَّ إلى المدينة، وشهد المشاهد كلَّها، وهو الذي أجهز(2) على أبي جهل يوم بدر، وشهد له رسول الله صلعم بالجنَّة.
          قال الكرمانيُّ(3) : وهو صاحب نعل رسول الله صلعم ؛ كان يُلبسه إيَّاها إذا قام، ويجعلها في ذراعه إذا خلعها. نزل الكوفة في آخره أمره، وكان على قضاء الكوفة وبيت مالها لعمر، وصدراً من خلافة عثمان.
          قال ابن الأثير(4) : وكان أبوه مسعود قد حالف في الجاهليَّة عبد بن الحارث بن زهرة، وكان إسلامه حين أسلم سعيدُ بن زيد وزوجتُه فاطمةُ بنت الخطَّاب، وكان سبب إسلامه: قال عبد الله: كنت غلاماً يافعاً في غَنَمٍ لعُقبةَ بن أبي مُعَيْطٍ أرعاها، فأتى النَّبيُّ صلعم ومعه أبو بكر، فقال: «يا غلام، هل معك من لبن»؟ فقلت: نعم، ولكنِّي مؤتمن. فقال: «ائتني بشاة لم يَنْزُ عليها الفحل». فأتيته بعَنَاقٍ أو جَذَعةٍ، فاعتقلها رسول الله صلعم، فجعل يمسح الضَّرع ويدعو حتَّى أنزلت، فأتاه أبو بكر، فاحتلب في إناء، ثمَّ قال لأبي بكر: «اشرب». فشرب أبو بكر، ثمَّ شرب النَّبيُّ صلعم، فقال للضَّرع: «اقلص». فقلص، فعاد كما كان، ثمَّ أتيت، فقلت: يا رسول الله، علِّمني من هذا الكلام، أو من هذا القرآن. فمسح رأسي، فقال: «إنك غلام مُعَلَّم». قال: فلقد(5) أخذت منه سبعين سورة ما نازعني فيها بشر.
          وهو أول من جهر بالقرآن (بمكَّة)، اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلعم فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قطُّ، فمَنْ رجلٌ يسمعهم؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا. فقالوا: / إنَّا نخافهم عليك؛ إنَّما نريد رجلاً(6) له عشيرة تمنعهم إن أرادوه. فقال: دعوني، فإنَّ الله سيمنعني(7) . فغدا عبد الله حتَّى أتى المقام في الضُّحى، وقريش في أنديتها، حتَّى قام في المقام، فقال _رافعاً صوته_: ♫ { الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ } [الرحمن: 1-2] فقرأها، فتأمَّلوه، فقالوا: ما يقول ابن أم عبد؟ فقالوا: إنَّه ليقول(8) بعض ما جاء به محمَّد. فجعلوا يضربونه في وجهه، وهو يقرأ حتَّى بلغ ما شاء الله، ثمَّ انصرف إلى أصحابه، وقد أثَّروا بوجهه، فقالوا: هذا الذي كنا خشينا عليك. فقال: ما كان أعداء الله قطُّ أهونَ عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم عاودتهم بمثلها غداً. قالوا: حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون.
          ولمَّا أسلم عبد الله أخذه رسول الله صلعم، وقال: «أَذِنْتُ لك أن تسمع سراري(9) ، وترفع الحجاب». فكان يلج عليه، ويلبسه نعليه، ويمشي معه وأمامه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، وكان يعرف في الصَّحابة بصاحب السِّواد والسِّواك.
          هاجر الهجرتين، وصلَّى إلى القبلتين، وشهد بدراً، وأُحُداً، وبيعة الرِّضوان، واليرموك. قال: قال لي رسول الله صلعم: «اقرأ عليَّ سورة النِّساء». قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «إنِّي أحبُّ أن أسمعه من غيري». فقرأت عليه حتَّى بلغت { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا } [النساء:41] فاضت عيناه صلعم(10) .
          قال حذيفة: قال رسول الله صلعم «تمسَّكوا بعهد ابن أمِّ عبد». قال أبو موسى الأشعريُّ: لقد قدمت أنا وأخي من اليمن، وما نرى إلَّا أنَّ عبد الله من أهل بيت النَّبيِّ صلعم ؛ لما نرى من دخوله، ودخول أمِّه على النَّبيِّ صلعم. قال عبد الرَّحمن بن يزيد: أتينا حذيفة، فقلنا: حدِّثنا بأقرب النَّاس من رسول الله صلعم هدياً ودَلاَّ وسَمْتاً، فنأخذ عنه، ونسمع منه. فقال: ذاك عبد الله بن مسعود. وقال ابن مسعود: ولقد علم المحفوظون من أصحاب رسول الله صلعم أنَّ ابن أمِّ عبد هو أقربهم إلى الله زلفى(11) .
          قال عليُّ(12)☺: «لو كنت مؤمِّراً أحداً من غير مشورة لأمَّرْتُ ابن أمِّ عبد». وسيَّره عمر ☺ إلى الكوفة، وكتب إلى أهلها: إنِّي قد بعثت عليكم(13) عمَّار بن ياسر أميراً، وعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النُّجباء من أصحاب رسول الله صلعم من أهل بدر، فاقتدوا بهما، واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي.
          قال عليُّ بن أبي طالب: أَمَر صلعم ابنَ مسعود أن يصعد على شجرة يأتيه بشيء منها، فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله، فضحكوا من الحُموشة، فقال صلعم: / «ما تضحكون؟ لَرِجْلُ عبدِ الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أُحُد».(14) قال عليٌّ: ما رأينا رجلاً أحسن خُلقاً، ولا أرفقَ تعليماً، ولا أحسنَ مجالسة، ولا أشدَّ ورعاً من ابن مسعود. قال عليٌّ لأصحابه: أنشدكم الله، أهو صدق(15) من قلوبكم؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد أنِّي أقول [مثل] ما قالوا وأفضل.
          قال أبو وائل: لمَّا نسخ عثمان المصاحف بلغ ذلك عبد الله، فقال: لقد علم أصحاب محمَّد أنِّي أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخير، ولو أنِّي أعلم أنَّ أحداً أعلم بكتاب الله منِّي تبلغنيه الإبل لأتيته. فقال أبو وائل: فقمت إلى الخلق أسمع ما يقولون، فما سمعت أحداً من الصَّحابة ينكر ذلك عليه.
          قال زيد بن وَهْبٍ: إنِّي لجالس مع عُمر إذ جاءه ابن مسعود، يكاد الجلوس يوازونه من قصره، فضحك عمر حين رآه، فجعل يكلِّم عمر، ويضاحكه، وهو قائم، ثمَّ ولَّى، فأتبعه عمر بصره حتَّى توارى، ثمَّ قال: كُنَيْفٌ مُلئ علماً.
          قال عبيد الله بن عبد الله: كان عبد الله إذا هدأت العيون قام، فسمعت له دويًّا كدويِّ النَّحل حتَّى يصبح. قال سَلَمَةُ بنُ تَمَّامٍ: لقي رجل ابن مسعود، فقال: لا نعدم عالِماً مذكِّراً، رأيتك البارحة، ورأيت النَّبيَّ صلعم على منبر مرتفع، وأنت دونه، وهو يقول: [يابن مسعود] هلمَّ إليَّ، فلقد جُفيت بعدي. فقال له: آلله(16) ، لأنت رأيت هذا؟ قال: نعم. قال: عزمت عليك أن لا تخرج من المدينة حتَّى تصلِّي عليَّ. فما لبثت أيَّاماً حتَّى مات، وذلك بعد وفاة أبي ذر بعشرة أيَّام.
          قال أبو ظبية: مرض عبد الله، فعاده عثمان بن عفَّان، فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربِّي. قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطَّبيب أمرضني. قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: يكون لبناتك. قال: أتخشى على بناتي الفقر، وإنِّي أمرتهنَّ أن يقرأن كلَّ ليلة سورة الواقعة، فإنِّي سمعت رسول الله صلعم يقول: «من قرأ الواقعة كلَّ ليلة لم تصبه فاقة أبداً». وإنَّما قال له عثمان: ألا آمر لك بعطاء؛ لأنَّه كان حبسه عنه [سنين] ، فلمَّا توفِّي أرسله إلى الزُّبير، فدفعه إلى ورثته، وقيل: بل عبد الله ترك العطاء استغناء عنه، وفعل غيره كذلك.
          قال زيد بن وهب: لمَّا بعث عثمان إلى عبد الله بن مسعود يأمره بالقدوم عليه المدينة، كان بالكوفة اجتمع النَّاس عليه، فقالوا: أقم، ونحن نمنعك أن يصل إليك بشيء تكرهه. فقال عبد الله: إنَّ له عليَّ حقَّ الطَّاعة، وإنَّها ستكون أمور وفتن، فلا أحبُّ أن أكون أوَّل من فتحها. فردَّ النَّاس، وخرج إليه، ولمَّا مات ونعي إلى أبي الدَّرداء قال: لم يترك بعده مثله.
          توفِّي بالكوفة. قاله الكرمانيُّ، وقال ابن الأثير(17) : بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، ودفن بالبقيع، وصلَّى عليه عثمان، وقيل: عمَّار. وقيل: الزُّبير. وأوصى إلى الزُّبير(18) ، وأوصى أن يدفن ليلاً، ففعل كذلك، / وقيل: لم يعلم عثمان بدفنه، فعاتب الزُّبير على ذلك. وكان يوم توفِّي عمره بضعاً وستِّين سنة، ☺.


[1] في غير (ن): (خمسة وثلاثين) وهو تصحيف.
[2] في (ن) تصحيفاً: (أجهد).
[3] شرح البخاري:1/74.
[4] أسد الغابة:3/382 وترجمته مع أخباره فيه، وفيه: غاديتهم بدل عاودتهم.
[5] في غير (ن): (فقد).
[6] في (ن): (رجلً) دون ألف النصب.
[7] في غير (ن): (يمنعني).
[8] في غير (ن): (يقول).
[9] في غير (ن): (سوادي).
[10] أخرجه البخاري برقم (4582).
[11] أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (23308)، والترمذي برقم (3807) وسنده صحيح.
[12] حديث مرفوع، وليس من كلام علي ☺، وهو في مسند الإمام أحمد برقم (566).
[13] في غير (ن): (إليكم).
[14] مسند أحمد برقم (920).
[15] في (ن): (أهو أصدق).
[16] في (ن) تصحيفاً: (ابنه) وتصحفت فيها أيضاً (عالماً) إلى (حالماً).
[17] أسد الغابة:3/400، وقول الكرماني في شرح البخاري:1/74.
[18] في غير (ن): (ابن الزبير).